فِي حِضْنِ شَكٍّ نَاعِمٍ ***
.............................
عِنْدَمَا أَصْبَحْتُ شَيْخًا كَالْحِكَايَةِ،
وَانْحَنَى ظَهْرِي كَقَوْسِ قُزَحٍ بَاهِتٍ...
نَسِيتُ أَسْمَاءَ الشَّوَارِعِ الَّتِي مَشَيْتُهَا،
نَسِيتُ طَعْمَ الْخُبْزِ، وَأَوَّلَ كَلِمَةٍ تَعَلَّمْتُهَا،
لَكِنَّ ذَاكِرَتِي احْتَفَظَتْ بِكِ
كَمَا يَحْتَفِظُ الْبَحْرُ بِأَوَّلِ قَطْرَةِ مَطَرٍ.
أَتَذَكَّرُ... أَمْ أَنَّنِي أَحْلَمُ الْآنَ؟
كَانَ شَعْرُكِ يَتَرَاقَصُ كَأَوْرَاقِ الْخَرِيفِ الذَّهَبِيَّةِ،
وَعَيْنَاكِ... آهٍ، عَيْنَاكِ
كَانَتَا بُحَيْرَتَيْنِ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ،
أَمْ أَنَّنِي رَأَيْتُ الْقَمَرَ فَتَذَكَّرْتُ عَيْنَيْكِ؟
قُلْتُ لَكِ "أُحِبُّكِ" تَحْتَ شَجَرَةِ الْيَاسَمِينِ...
أَمْ أَنَّنِي هَمَسْتُ بِهَا لِلرِّيحِ وَظَنَنْتُ أَنَّكِ سَمِعْتِ؟
كَانَتْ كَلِمَاتِي تَتَطَايَرُ كَالْفَرَاشَاتِ نَحْوَ قَلْبِكِ،
أَمْ أَنَّهَا كَانَتْ مُجَرَّدَ أَحْلَامِ عَجُوزٍ
يَتَذَكَّرُ مَا لَمْ يَحْدُثْ؟
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ... أَكَانَتْ لَيْلَةً حَقًّا؟
عِنْدَمَا رَقَصْنَا عَلَى أَنْغَامِ الْمَطَرِ،
وَكَانَتْ قَطَرَاتُ السَّمَاءِ تُعْزِفُ لَنَا سِيمْفُونِيَةَ الْحُبِّ،
أَمْ أَنَّنِي رَقَصْتُ وَحِيدًا مَعَ خَيَالِكِ
كُلَّ هَذِهِ السِّنِينَ؟
أَذْكُرُ رَائِحَةَ عِطْرِكِ...
كَالْيَاسَمِينِ الْمُخْتَلِطِ بِالنَّدَى،
تَمْلَأُ أَنْفِي حَتَّى الْآنَ كُلَّمَا أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ،
وَلَكِنْ هَلْ كَانَ عِطْرًا حَقًّا
أَمْ رَائِحَةَ الذِّكْرَيَاتِ الْعَطِرَةِ؟
كَتَبْتُ لَكِ أَلْفَ رِسَالَةٍ...
أَمْ كَتَبْتُ رِسَالَةً وَاحِدَةً أَلْفَ مَرَّةٍ؟
كَانَتِ الْكَلِمَاتُ تَنْسَابُ مِنْ قَلَمِي كَالْعَسَلِ،
"أَنْتِ شَمْسِي فِي لَيْلِ الرُّوحِ،
أَنْتِ نَجْمَتِي الْوَحِيدَةُ فِي سَمَاءِ الْوَحْشَةِ"
وَلَكِنْ... هَلْ أَرْسَلْتُهَا
أَمِ احْتَفَظْتُ بِهَا فِي صُنْدُوقِ أَحْلَامِي؟
وَذَلِكَ الْيَوْمُ عِنْدَ النَّهْرِ...
عِنْدَمَا قَطَفْتُ لَكِ وَرْدَةً بَيْضَاءَ وَقُلْتُ:
"كُونِي وَرْدَتِي إِلَى الْأَبَدِ"
أَمْ أَنَّنِي قَطَفْتُ الْوَرْدَةَ لِقَبْرِكِ
بَعْدَ أَنْ رَحَلْتِ؟
كَانَتْ ضَحِكَتُكِ تَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ كَأَجْرَاسِ الْفَرَحِ،
وَكَانَ صَوْتُكِ عَذْبًا كَخَرِيرِ الْمَاءِ عَلَى الْحَصَى،
وَلَكِنِ الْآنَ... هَلْ أَسْمَعُهُ حَقًّا
أَمْ هُوَ صَدَى الذَّاكِرَةِ؟
تَزَوَّجْتُكِ فِي حُلْمٍ أَبْيَضَ...
كُنْتِ عَرُوسًا كَالْقَمَرِ فِي لَيْلَةِ اكْتِمَالِهِ،
وَكَانَ فُسْتَانُكِ يَتَمَوَّجُ كَأَمْوَاجِ الْبَحْرِ النَّاعِمَةِ،
أَمْ تَزَوَّجْتُ غَيْرَكِ
وَحَلِمْتُ بِكِ كُلَّ لَيْلَةٍ؟
أَنْجَبْنَا أَطْفَالًا يُشْبِهُونَكِ...
كَانَتْ عُيُونُهُمْ نُسَخًا مِنْ عَيْنَيْكِ السَّاحِرَتَيْنِ،
أَمْ أَنَّنِي رَأَيْتُ وَجْهَكِ
فِي كُلِّ طِفْلٍ مَرَّ بِجَانِبِي؟
وَالْآنَ...
وَأَنَا أَذْبُلُ كَوَرَقَةِ الْخَرِيفِ الْأَخِيرَةِ عَلَى الْغُصْنِ،
وَيَدَايَ تَرْتَعِشَانِ كَأَوْرَاقِ الشَّجَرِ فِي الْعَاصِفَةِ،
أَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي الْهَزَّازِ
أَبْحَثُ عَنْكِ فِي زَوَايَا الذَّاكِرَةِ.
هَلْ كُنْتِ حَقِيقَةً أَمْ كُنْتِ أَجْمَلَ أَحْلَامِي؟
هَلْ لَمَسْتُ يَدَكِ فِعْلًا أَمْ لَمَسْتُ الْهَوَاءَ وَتَخَيَّلْتُ دِفْأَكِ؟
هَلْ نِمْتِ بِجَانِبِي أَمْ نِمْتُ وَحِيدًا أَحْلُمُ بِكِ؟
لَكِنْ... انْتَظِرْ...
أَتَسَاءَلُ الْآنَ وَأَنَا أَكْتُبُ قِصَّتَنَا هَذِهِ:
أَمْ أَنَّنِي أَخْتَلِقُ ذِكْرَيَاتٍ لَمْ تَحْدُثْ
مِنْ أَجْلِ أَنْ أَشْعُرَ بِأَنَّنِي عِشْتُ؟
رُبَّمَا... رُبَّمَا لَمْ أُحِبَّكِ أَبَدًا،
رُبَّمَا أَنْتِ مُجَرَّدُ شَخْصٍ رَأَيْتُهُ فِي الشَّارِعِ مَرَّةً وَاحِدَةً،
وَخَيَالِي الْوَحِيدُ نَسَجَ حَوْلَكِ حِكَايَةً كَامِلَةً،
كَمَا يَنْسُجُ الْعَنْكَبُوتُ بَيْتَهُ مِنْ لَا شَيْءٍ.
أَمْ أَنَّكِ أَنْتِ مَنْ اخْتَلَقَنِي؟
أَمْ أَنَّنِي أَنَا مَنْ اخْتَلَقَكِ؟
أَمْ أَنَّنَا كِلَيْنَا مُجَرَّدُ حُلْمٍ
فِي عَقْلِ شَاعِرٍ آخَرَ؟
وَإِذَا كَانَ الْحُبُّ الَّذِي أَشْعُرُ بِهِ الْآنَ... مُجَرَّدَ وَهْمٍ،
فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُبِّ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُبِّ الْمُتَخَيَّلِ؟
أَلَا يُؤْلِمَانِ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ؟
أَلَا يُحْرِقَانِ الْقَلْبَ بِنَفْسِ النَّارِ؟
وَإِذَا كَانَتِ الذِّكْرَيَاتُ تَكْذِبُ... فَمَنْ أَنَا؟
وَإِذَا كَانَتِ الْقِصَّةُ كُلُّهَا خَيَالًا... فَمَا حَقِيقَتِي؟
لَكِنْ... لَحْظَةً... لَحْظَةً وَاحِدَةً...
مَاذَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّكُوكُ نَفْسُهَا... مُجَرَّدَ هُرُوبٍ مِنَ الْحَقِيقَةِ؟
مَاذَا لَوْ كَانَ كُلُّ مَا حَدَثَ حَقِيقِيًّا...
وَلَكِنَّنِي أُشَكِّكُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً؟
وَلَكِنْ... حَتَّى لَوْ كَانَتْ شُكُوكِي فِي شُكُوكِي... شُكُوكًا أَيْضًا،
فَإِنَّ هَذَا الْأَلَمَ الَّذِي أَشْعُرُ بِهِ الْآنَ... أَلَمٌ حَقِيقِيٌّ،
وَهَذَا الْحَنِينُ الَّذِي يُمَزِّقُ صَدْرِي... حَنِينٌ حَقِيقِيٌّ،
وَهَذَا الْحُبُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُنِي... حُبٌّ حَقِيقِيٌّ.
أَمْ أَنَّنِي أُقْنِعُ نَفْسِي بِأَنَّ الْوَهْمَ حَقِيقَةٌ...
لِأَنَّنِي أَخَافُ مِنَ الْحَقِيقَةِ؟
لَا أَدْرِي... لَا أَدْرِي شَيْئًا...
وَلَكِنَّنِي أَعْرِفُ أَنَّنِي لَا أَدْرِي...
وَرُبَّمَا... رُبَّمَا هَذَا هُوَ كُلُّ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ
عَنِ الْحُبِّ.
( محمَّدُ الحُسَيْنِي )