أثيل الشكر والامتنان للقديرة والشاعرة النبيلة غزلان البوادي حمدي على بهاء القراءة والتحليل النقدي المميز لنصي المتواضع بلا فاتحة على أعمدة مجلتها الأدبية الوارفة. شكراً من القلب
تحليل وقراءة أدبية بقلم الشاعرة الأديبة غزلان حمدي من تونس
قصيدة "بلا فاتحة" للشاعر عبدالرزاق البحري من بني مالك، تونس، تنتمي إلى النصوص الحرة التي تفيض بالتأمل الوجودي والوجع الداخلي، وتعكس بعمق معاناة الإنسان في مواجهة ذاته والعدم. منذ المطلع "إلى اللانهاية، إلى حيث لا تستقر حروفي"، يُدخلنا الشاعر في فضاء لا يُحدّ، كأنه يكتب من عتمة الروح إلى ضوء بعيد لا يُمسّ، حيث تنفلت اللغة من حدودها وتتحول إلى صدى يبحث عن ذاته في الفراغ.
القصيدة تتنفس بوجعٍ وجوديّ كثيف، إذ يتنقل الشاعر بين "بيني... و... بيني" في صراع داخلي يشبه انفصام الذات عن ذاتها، فتغدو الحروف أصداءً للغربة الداخلية لا وسيلة للتعبير فقط. يتكرر حضور الوجع كخريطة تسكن الشرايين، مما يكشف عن حساسية شعرية عالية وقدرة على تصوير الألم ككيانٍ نابض بالحياة.
في المقطع الأوسط، ينتقل الشاعر من الذات إلى الواقع الجمعي في مشهدٍ صادم، إذ يصف الأمة كـ"امرأة حبلى متبرجة تنبعث منها رائحة العفن"، وهو تصوير رمزي جريء يرصد انحطاط القيم وضياع الهوية، بأسلوب ساخرٍ لاذع لا يخلو من الغضب والحسرة. هذه الصورة القوية تفضح تناقضات المجتمع وتحوّل النص إلى مرآة سوداء تعكس قبح الواقع.
ثم يعود إلى ذاته مجددًا، متسائلًا عن ماهية الكتابة والوجود: "أأكتبني... أأكتبكم...؟ لست أدري"، في لحظة تيهٍ فلسفية تجمع بين الوعي والجنون، بين الإبداع واللاجدوى. هذا التساؤل الختامي لا يبحث عن إجابة، بل يكرّس الضياع كجوهر التجربة الإنسانية.
إن تكرار عبارة "إلى اللانهاية" يضفي على النص بُعدًا دورانيًا، كأن القصيدة لا تنتهي لأنها لا تجد جوابًا، ويأتي الختام بالصلاة "بلا فاتحة" كصورة رمزية للعبادة المقطوعة، للإيمان المتعب الذي يبحث عن معنى وسط الخراب.
الشاعر عبدالرزاق البحري أبدع نصًا كثيفًا بالغ العذوبة والعمق، يتجاوز الشعر بوصفه تعبيرًا لغويًا ليصبح تجربة فكرية ووجدانية كاملة، تزاوج بين التمرد والتأمل، بين الحقيقة والحلم، بين الصمت والكلمة.
إنه نص يليق بشاعرٍ يكتب من أقصى وجعه، ومن أقصى صدقه، حتى يغدو الشعر عنده صلاةً أخرى... بلا فاتحة.
مع تحيات رئيس مجلس الادارة غزلان حمدي