بقلم الدكتور مصطفى محمد العياشي
بين العلم والمصير: اعترافات طبيب في أيامه الأخيرة
لطالما كنت أراقب الحياة من زاوية الباحث، أفكك السلوك الإنساني، أحلل المشاعر، وأفسر الصمت قبل الكلمات. لكن اليوم، أنا نفسي أصبح موضوعًا للدراسة، لم يعد التحليل نظريًا، بل بات جسدي وروحي ساحةً لتجربة شخصية لم أخترها، لكنها فُرضت عليّ ببطء، بلا مفاجآت ولا ضجيج.
في البداية، قاومت. حاولت أن أتعامل مع الأمر كأي حالة كنت أتابعها في عيادتي. نظرت إلى المرض وكأنه معادلة قابلة للحل، لكن الأيام علّمتني أن بعض الأسئلة لا تملك إجابة، وأن بعض الرحلات لا تحتاج إلى تفسير، بل إلى تقبل.
تغير جسدي أولًا، وبدأ الإنهاك يترسخ في خلاياي. كنت أراقب نفسي كما كنت أراقب مرضاي، ألاحظ كيف تتحول العادات اليومية إلى إنجازات، وكيف تصبح التفاصيل الصغيرة اختبارات صبر. لكن الإدراك الحقيقي لم يأتِ إلا عندما بدأ ذهني بالتغير، حين صارت الذاكرة واهنة، والتفكير متعبًا، وكأن عقلي الذي درّبته لعقود على التحليل والتأمل بدأ يفقد سيطرته، شيئًا فشيئًا.
كنت أؤمن دومًا أن الإنسان يعيش في مراحل: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، ثم القبول. لكنني اليوم أدركت أن هذه ليست مراحل خطية، بل دوائر متداخلة. ففي لحظة أقبل قدري، وفي اللحظة التالية أرفضه بغضب. أحيانًا أبتسم بسلام، وأحيانًا أستيقظ فزعًا من فكرة أنني لن أكون هنا قريبًا.
لكن مع الوقت، ومع كل يوم يمر، أدركت أن الموت ليس النقيض للحياة، بل جزء منها. ليس هناك شجاعة في مقاومته، بل في احتضانه كخاتمة طبيعية لكل رحلة. لم أعد أبحث عن المعنى في البقاء، بل في الطريقة التي سأغادر بها، في الكلمات التي سأتركها، في الأثر الذي سيبقى بعد أن أرحل.
لم أعد أرى المرض كعدو، بل كرفيق رحلتي الأخيرة، يعلمني الصبر، ويكشف لي عن جوهر الحب الذي أحيط به. كنت أبحث طوال حياتي عن إجابات للآخرين، لكنني اليوم أكتشف أن أعظم الإجابات تأتي في لحظات الصمت، حين لا يكون هناك حاجة للكلمات، بل فقط للسلام الداخلي.
الآن، وأنا أقترب من النهاية، أجد نفسي ممتنًا لكل شيء: للألم لأنه علمني الصبر، للخسارة لأنها عرّفتني على قيمة اللحظة، وللحياة لأنها أعطتني فرصة أن أكون، ولو لفترة، شاهدًا على عظمة الوجود.
........
بقلمي الدكتور مصطفى محمد العياشي