ردّ الجميل
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
لم يبقَ على أذان المغرب سوى دقائق قليلة في هذا اليوم الرمضاني المبارك. وقف أغلب رجال الحي أمام مخبزة الزقاق التقليدي ينتظرون نصيبهم من الخبز الساخن الخارج من أفرانها المشهودة، حين توقّفت فجأة ثلاث سيارات للشرطة على وقع مكابحها المزعج. نزل منها جمع من الأعوان يرافقهم رجل تنهمر الدماء من وجهه المُزرقّ بالكدمات، بالكاد يقف، متكئًا على كتف أحدهم، يبكي ويتأوّه ويزمجر ويهدّد…
اندَهشنا أمام هذا المشهد، بل رقّت قلوبنا على هذا المصاب في هذا الوقت بالذات. تمنّى له بعضنا الشفاء، ودعا له آخرون، بينما راح البعض الآخر يستفسر عن سر هذه الزيارة المفاجئة.
وفي الأثناء، تعالت أصوات الأطباق داخل المخبزة، فدبّت حركة كبرى، وتزاحم الناس وتخاصموا من أجل الظفر بأكبر قدر من الخبز ـ وهي غريزة رجالية معروفة في هذا الشهر الكريم بما أنه “شهر شهوات الرجل” كما يقال ـ فيما ظلّ “المتضرّر” يستعرض آلامه تحت أنظار رجال الأمن الذين أخذوا يفتّشون الوجوه، يشتمون ويتأففون…
ما الذي يحدث؟ عمن يبحثون؟ وما سبب حضورهم إلى حينا في هذا التوقيت؟ ولماذا يمنعوننا من المغادرة؟
رفع أحد الأعوان صوته المنهك من الصوم والتعب وتكرار مثل هذه المهمات:
ـ أين منزل عبد الرحمان التونسي؟
تسمّر الجميع في أماكنهم، يستغفرون ويحوقلون، يتبادلون النظرات والهمسات. الصدمة كبّلت الألسنة، ولم يجرؤ أحد على الرد.
فجأة قال منير التونسي بثبات يشوبه الارتباك:
ـ أنا ابنه… اتبعوني، سأقودكم إليه.
نظر إليه الناس وكأنهم يودّعون رجلًا يُساق إلى مصيره. فرك بعضهم أيديهم، واحمرّت وجوه آخرين، وكاد البعض يُغمى عليه.
ركب منير معهم وهو يتمتم ويفكر، يعتذر لأمه في داخله لأنها تنتظره على أحرّ من الجمر مع إخوته، إلى أن بلغوا مقبرة القرية. طلب من السائق التوقف، ثم نزل، فتبعوه وهم لا يفهمون ما الذي يجري. ألقى السلام على الأموات، سار قليلًا، وأذان المغرب ينساب من كل صوب، ثم توقف أمام قبر، التفت إليهم وقال:
ـ هذا أبي… تفضّلوا.
إن أجرم وأردتم القبض عليه فهو هنا.
وإن أخطأ وتريدون استجوابه… فها هو أمامكم.
قاطعه أحد الأعوان بخشونة:
ـ هل تستهزئ بنا أيها الركيك؟
وأضاف آخر وقد تطاير الشرّ من وجهه:
ـ أنت تتعمد تضليل الأمن والسخرية منه!
قال منير، بعد أن ابتلع ريقه مع انتهاء الأذان وقد انكسرت نبرته:
ـ والله لم أقصد. والدي مات قبل أربعة أيام… مات قبل رمضان بيوم واحد. تركنا تائهين ضائعين، وأنتم تبحثون عنه الآن؟
تبادَل الأعوان النظرات الحائرة. حدّقوا بالمتضرّر، حتى ضربه أحدهم على رقبته يسأله بنفاد صبر. أجاب الشاكي بنبرة خافتة تنزّ منها الحسرة، بينما كان منير يقرأ الفاتحة باكيًا عند قبر أبيه:
ـ والله العظيم قال لي إن اسمه عبد الرحمان التونسي… يسكن في حي الإيمان.
ضربني وسلبني وشتمني وهددني إن تقدّمت بشكوى…
حتى صادف مروركم فاستنجدت بكم.
بقوا للحظات صامتين، إلى أن دعاهم منير للوقوف خلفه لأداء صلاة المغرب جماعة. وبعد الصلاة عادوا إلى الحي، وقدّم منير ما توفر من تمرٍ وماء لتبليل ريق الصائمين، ثم طمأن أمّه وقصّ عليها ما كان يحدث معه. بعدها أخرج صورة والده الراحل، وعرضها على الشاكي الذي برّأ الرجل من كل تهمة واهية.
انطلق الأعوان بعدها يفتّشون في الأزقة، يدققون النظر في المارّة وقاصدي الجوامع والمقاهي، إلى أن لمح الشاكي فجأة شبح رجل يفرّ هاربًا فور رؤيته للشرطة، فصرخ: “هو ذاك!”
ركض الأعوان خلفه وقبضوا عليه بسرعة. تبيّن أنه صالح، ابن عم منير، المعروف لدى الأمن ومطلوب في قضايا مماثلة منذ مدة.
أما منير فوقف مذهولًا، عاجزًا عن الكلام أو التفاعل أو الدفاع عن اسم والده، فقد تذكّر كيف كان هذا المجرم نفسه يقضي معظم وقته في بيتهم، ينعم بخيرات والده، بعطفه وحنانه، حتى صار عند بعضهم كابن خامس لعبد الرحمان… بل أحيانًا الابن الأقرب والأعز. وهذا ما أثار غيرة منير وإخوته، وكاد يولّد بينهم شعورًا بالكراهية تجاه ابن عمهم الذي استحوذ على قلب أبيهم في لمح البصر.
وها هو اليوم يردّ جميله بهذه الطعنة… ويعيده إلى قبره مثقلًا بالبهتان دون حياء أو خجل.