تحليل وقراءة أدبية بقلم الشاعرة الأديبة غزلان حمدي من تونس

 ▼


- - -كأْسي..

كأس الزهراوي الشاعر

           بقلمي


لا تقِفْ

هكذا عِنْد

بَوّابَةِ الْمدينَةِ.

ولا تقْصُصْ

رُؤْيا ذي الدّاءِ

على أحَدٍ.

ما أنا فـِي

نِعْمَةٍ أهْنَأُ بِها.

كيْفَ؟..

ثِقْلُ شَعْرِها

الطّويلِ كالْغَيْمِ

وصورَتُها لَدَيَّ

يالْعارِفُ فـِي

فُضْلَةِ كأْسي.

أتكَبّدُها

عنْ ظهْرِ قلْبٍ.

فيها..

أبْحَثُ عن أُفُق

وهِيَ تدْري!

فاعْذِرْ قارِئي

هذا

الدّاءَ الْعاطِفيّ.

أحْمِلُها

فِـيّ طابورَ نِساءٍ

وأمْشي

بِها على

كاهِلي كالْجِبالِ

هِيَ لا أحَدٌ..

أنا ملّني الصّبْرُ

وما ملَلْتُ الصّورَةَ.

ما بَرِئْتُ

مِنَ الْغَداةِ..

اَلْحقيقَةُ مُتجَلِّيّةٌ

ومنها لَمْ أُشْفَ

إذْ كُلُّها غُموضٌ

أوْ واضِحَةٌ بالْغامِضِ.

جَمالُها الْخاصُّ

فِكْرٌ ألْتَذُّ بِه كصَلاةٍ

وهِي واثِقَةٌ.

كمْ همَمْتُ

لَمّا همّتْ تُمْعِنُ فـِي

كشْفِهِ..

بِتَأنٍّ مَمْحُوّةً فـِي

غُيوِمِ الصُّبْحِ.

هذهِ كِتابةٌ

لا تُمَكِّنُ مِن

قِراءَتِها سريعاً

إذْ كُلُّها شِعْرٌ !

وهنْدَسَتُها الْمُثيرَةُ

لا تَحْتَمِلُ التأويل

ولا التّعَرِّيَ..

أمامَ الْعُشّاقِ.

كيْف أنْتَهي

مِنْها وهِي الأهْلُ؟

كلُّ أسْمائِها

اللامُتناهِيّةِ..

تسْتعْصي علَيّ كألَمٍ

وأتأبّطُها

سِفْرَ عِشْقٍ!

بِهذا أتباها..

ظِلالُها

أغانٍ وكُحْلٌ

تنْتبِذُ

الْكوْن منْأى

وتغْرَقُ فِـي الْبعيدِ.

بِهذا أصابتْني

بِطَعْنَةِ فاتِكٍ

ورَمتْني رهْنَ ريحٍ

أبيتُ طاوِياً

ولا أنامُ..

طريدا في

حاناتِ الشّمالِ.

آهٍ..

لسْتُ لائِمَ حُرّةٍ

ما ضرّ لوْ

أنّها شفَتْ نفْساً

أوْ شفَتْني بِقَتْلي..

تعلّقْتُها وليداً

أنا..

ذو الدّاءِ.

أنْظرْ

ما الّذي يحْدُثُ

الرأْس..

ابْيضّت ثَلْجاً

وما صفَتْ نفْسي

مِنْ

سطْوَةِ الْكأْسِ.

لا أقولُ هذا فـِي

سكْرَتـِي مَجازاً.

ولكِنّ هذا ما

يُعاقِرُنـِي فـِي

خلْوَتـِي حقاً.

حيْثُ..

أرْزَحُ فـِي

جَجيمِ الْبياضِ.

تلْفَحُني غِياباً

هِيَ لا أحدٌ

مِنها لَم أُشْف.

ويدُها علَيّ

عَلى..

مدارِ السّاعةِ

وطول النهار.


محمد الزهراوي

   أبو نوفل

——————————-

تحليل وقراءة أدبية بقلم. . .

الشاعرة الأديبة غزلان حمدي من تونس 


نص "كأسي" للشاعر محمد الزهراوي (أبو نوفل) هو من النصوص التي تمتح من عمق التجربة الشعورية، وتُبنى على تداخل الحواس بالذاكرة والرمز بالبوح العاطفي. إنه نص مغمور بالوجد، مكثف بالتأملات الحسية والميتافيزيقية، ومتداخل مع مفردات الشوق، المرض، الفقد، والدهشة من الجمال الكامن في امرأة غامضة الحضور والهوية.


منذ البداية، يختار الشاعر ألا "يقف عند بوابة المدينة" في إشارة رمزية إلى الانغلاق عن الآخرين، أو الامتناع عن الحكي التقليدي، فهو لا يريد أن "يقص رؤيا ذي الداء على أحد"، وهذا الاستهلال يشي بنبرة شبه نبوئية، تجعل المتلقي يستشعر أن ما يلي ليس مجرد قصة عشق، بل أقرب إلى "نزيف داخلي" ممتد في النفس واللغة.


المرأة في هذا النص ليست فقط معشوقة، بل كيان جمالي، مجازي، هائل في تأثيره، لا يمكن تجاوزه أو تلاشيه من الذاكرة. ثقل شعرها وصورتها يثقلان قلب الشاعر كما يثقل الجبال كاهله، ما يجعل منها رمزا ليس لحب فقط، بل لفكرة مستعصية، لحالة من التماهي الجمالي المؤلم. يقول: "هِيَ لا أحَدٌ". وكأنه يعلن عن شخصٍ/كيانٍ لا يمكن تسميته، أو لا يُردف ضمن المعهود والممكن.


يلعب الزهراوي في نصه على التناقضات: الوضوح والغموض، الغياب والحضور، النشوة والوجع، ليبني قصيدة قائمة على التوتر الداخلي، وعلى النأي بالنفس عن البوح التام، فيقول: "جَمالُها الْخاصُّ فِكْرٌ ألْتَذُّ بِه كصَلاةٍ"، وفي هذا التعبير تتجلى الرؤية الصوفية للعشق، حيث تصبح المحبوبة أشبه بالوحي أو الطقس الروحي الذي يربك ولا يروّض.


هندسة النص أيضًا تعكس هذا الانحراف المتعمد عن البنية التقليدية، إذ تتقاطع الصور وتتوالد في سلاسة تجريبية تقترب من الشعر الحر الممزوج بنثر تأملي. العبارة: "هذهِ كِتابةٌ لا تُمَكِّنُ مِن قِراءَتِها سريعاً، إذْ كُلُّها شِعْرٌ!"، هي مفتاح لفهم النص؛ فهي إشارة إلى أن التجربة أكبر من أن تُختزل أو تُقرأ بشكل سطحي.


الختام يتوج النص بصرخة وجدانية صامتة: "ويدُها علَيّ عَلى.. مدارِ السّاعةِ وطول النهار."، وهي صورة تقترح الاستحواذ الكامل للغائبة/الحبيبة، وبقاء تأثيرها دائمًا، وكأنها لعنة أو بركة لا تنزاح.


في المجمل، "كأسي" قصيدة تضعنا أمام شاعر يمتلك حساسية شعرية عالية، وأسلوبًا متفردًا في نحت العبارة، تتقاطع فيه اللغة الصوفية مع المعجم العاطفي الحديث، لينتج نصًا مدهشًا في تأمله، متوهجًا بعمقه، وغنيًا بإيحاءاته. شكراً للشاعر محمد الزهراوي على هذا النص المكثف والمفتوح على قراءات متعددة.


          الشاعرة الأديبة غزلان حمدي / تونس

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال