الرحمة المنشودة في عالم اليوم.
الرحمة خُلق أصيل من أخلاق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، رحمة بالإنسان والحيوان والجماد ، رحمة في أسمي وأنقي وأطهر معاني الرحمة ، يدخل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصلاة ويُريد إطالة القراءة والقيام والركوع والسجود لكن يمنعه من ذلك رِقة القلب وإرهاف الشعور وحساسية الضمير ، حيث يسمع بكاء صبي صغير مُرافق لأمه ، فيلجأ إلى التخفيف غير المُخل بأركان الصلاة ؛ حتى لا تنشغل الأم في صلاتها بولدها الصغير ، روي الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي ممَّا أَعْلَمُ مِن شِدَّةِ وجْدِ أُمِّهِ مِن بُكَائِهِ ) .
وذات مرة في إحدى صلاتي العِشاء أي المغرب أو العشاء ، سجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سجدة طويلة حتى ظن المُصلون أنه صلى الله عليه وسلم قد قُبضت روحه أو نزل عليه الوحي ، وبعد الصلاة عَلِمَ المُصلون أنه صلى الله عليه وسلم أطال السجود لأن أحد أولاد ابنته قد ركب على ظهره وهو ساجد ، فأطال السجود حتى لا يُفسد على الطفل فرحته وسروره بركوب ظهر جَده ، وهذا يُعطينا درس عملي في الرحمة والرأفة بالأطفال لأنهم شباب الغد وشيوخ المستقبل ، ومن تربي على شيء نشأ عليه وصار له سلوكاً مدي الحياة ، روي الإمام أحمد والنسائي واللفظ له من حديث شداد بن الهاد الليثي قال: خرَجَ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في إحدى صَلَاتَيِ العِشاءِ، وهو حامِلٌ حسنًا أو حُسينًا، فتقدَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فوضَعَه، ثمَّ كبَّرَ للصَّلاةِ، فصلَّى، فسجَدَ بينَ ظَهْرَانَيْ صلاتِهِ سجدةً أطالَها، قال أَبِي: فرفَعْتُ رَأْسي، وإذا الصبيُّ على ظَهرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو ساجِدٌ، فرجَعْتُ إلى سُجودي، فلمَّا قضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال الناسُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّكَ سجَدْتَ بينَ ظَهْرَانَيْ صلاتِكَ سجدةً أطَلْتَها، حتَّى ظَنَنَّا أنَّه قدْ حدَثَ أمْرٌ، أو أنَّه يُوحَى إليكَ، قال: كلُّ ذلكَ لم يكُنْ، ولكنَّ ابْني ارْتَحَلَني ، فكرِهْتُ أنْ أُعْجِلَهُ حتَّى يَقضيَ حاجتَهُ )
ولم تقتصر الرحمة بالإنسان بل بالحيوان أيضاً فهو ذو روح وأحاسيس مثل الإنسان ، وذات مرة يدخل الحبيب المصطفى صلى الله عليه مزرعة نخيل مِلك لأحد الأنصار ، فوجد بها جَملاً ، ولما رأى الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه بالدموع ، فاقترب منه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ذو القلب الرحيم ، ومسح دموعه ، ونادي على صاحبه وأوصاه أن يُطعمه جيداً وألا يُجهده في العمل ، لأن الجمل شكا له أنك تُجيعه أي لا تُطعمه جيداً ، وتُدئبه أي تُتعبه في العمل ، روي الإمام أبو داود من حديث عبد الله بن جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه قال:أردَفَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خَلفَهُ ذاتَ يومٍ، فأسرَّ إليَّ حَديثًا لا أحدِّثُ بِهِ أحَدًا من النَّاسِ، وَكانَ أحبُّ ما استَترَ بِهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ لحاجَتِهِ هَدفًا، أو حائِشَ نَخلٍ، قالَ: فدخلَ حائطًا لرَجُلٍ مِن الأنصارِ فإذا جَملٌ، فلَمَّا رأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ حنَّ وذرِفَت عيناهُ، فأتاهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فمَسحَ ذِفراهُ فسَكَتَ، فقالَ: مَن ربُّ هذا الجَمَلِ، لمن هذا الجمَلُ؟ فَجاءَ فتًى منَ الأنصارِ فَقالَ: لي يا رسولَ اللَّهِ فَقالَ: أفلا تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَ اللَّهُ إيَّاها؟ فإنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدئبُهُ ).
وامتدت الرحمة النبوية بالجماد ، فقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة بجوار جِِزع من جُزوع النخيل التي كانت أعمدة للمسجد ، ولما صُنع له المِنبر ، ترك الجزع وخطب على المنبر لكن الجزع حزن لفِراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسُمع للجزع صوت حنين سمعه المصلون ، صوت حاني كصوت الأم التي فقدت ولدها ، ولما سمع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صوت الجِزع نزل من على المنبر ومسحه بيده واحتضنه فسكت الجزع ، ولو لم يُهدئ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من حُزن الجِزع لظل حزيناً باكياً إلى يوم القيامة ، روي الإمام البخاري من حديث عبد الله عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ ، فَحَنَّ الجِذْعُ ، فَأَتَاهُ ، فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ " .
وفي رواية عند أحمد : ( إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ ) .
وَفِي حدِيث جَابر بن عبد الله رضي الله عنهما عِنْد النسائى في السنن الكبرى : (اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السارية كحنين النَّاقة الحلوج).
والناقة الحلوج : هي النَّاقة التِي انتُزع مِنْهَا وَلَدهَا.
وروى الإمام ابن ماجه من حديث عبد الله بن عَبَّاسٍ، وأَنَسٍ بن مالك رضي الله عنهما : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ ، ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ ، فَاحْتَضَنَهُ ، فَسَكَنَ . فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ) .
هذه هي الرحمة المنشودة في عالم اليوم ، اللهم انفعنا بما علمتنا إنك على كل شيء قدير .
بقلم . د / عزام عبد الحميد أبو زيد فرحات .