طواف الوداع بقلم الأستاذ ماهر اللطيف

 طواف الوداع


بقلم :ماهر اللطيف


رفعت كفي يديها عاليا إلى السماء والدموع تذرف من عينيها مدرارا، ارتجف جسدها، أحست بحرارة مرتفعة تنخر كل مكوناتها وأجزائها، تقوّت على بدنها، فرضت نفسها وَسَط هذه الحشود من الحجاج التي تطوف بالكعبة في هذا الوقت قبل حلول زمن صلاة العصر، صاحت عاليا بأقوى صوتها حتى كادت تبح ولم تسمع جيدا ما كانت تتلفظ به من دعاء ومناجاة للواحد الأحد، ثم قالت - في ما قالت - "... سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"... "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"....


فدعت، ثم دعت، و دعت، ولم تكفكف أمطار عينيها، ولم تتوقف عن البكاء، لم تشعر بالتعب أو الإعياء، لم يحاصرها الألم، لم تعد تعتقد أنها مصابة بالسكري والقلب وضغط الدم وغيرها، نسيت أنها فعلا قد تجاوزت العقد السادس من عمرها، بل إنها رأت نفسها شابة لم تتجاوز العشرين في هذا المكان والوقت...


زادت في البكاء كلما ازداد ذوبانها، وانصهارها في هذا الموقف، وتقوي إيمانها وطمعها في نيل مرضاة الله، وتقبله لها ولدعائها، في هذا المكان الجلل وهذه الشعائر المقدسة، تحمست حتى بلل العرق جسدها النحيل، وكادت أشعة الشمس الحارقة أن تضر برأسها وتعبث بمحتوياته، تحملت دهس أرجل الحجاج وتدافعهم المتواصل، وضربهم لها في ظهرها وبطنها، حتى رقبتها أحيانا - دون قصد بطبيعة الحال -...


فجأة، رأت نفسها تطير بجناحيها الأبيضين الطويلين في سماء لا بداية لها ولا نهاية، شامخة القامة ومبتسمة الشفتين، تحلق عاليا جدا - من سماء إلى سماء - فوق أرض ماضيها المليئة بالمآسي، والمتاعب، والأمراض، وظلم الناس، وضيم أقربهم لها قبل أبعدهم، تبتعد رويدا رويدا عن تليد الذكريات وما تجلبه لها من حزن، وألم، وشعور باليأس والقنوط، وغيرها...، تقترب من حاضرها الذي يبعث فيها الأمن، والسلام، والاستقرار النفسي والذهني، ويغذي ذاك الوازع الديني الذي كاد يضمحل، ويندثر وَسَط قمامة الماضي التعيس الذي حاصرها إلى حد الاستعمار، والتملك، عقودا و عقودا...


وها هي تحط الرحال في مكان فسيح، لم تر سنوه قط طيلة حياتها، مكان لا تسمع فيه غير التسبيح والاستغفار وذكر الله، وانسياب مياه الجداول والوديان التي تسقي هذه الخضرة، وترعى منتجاتها المتنوعة و المختلفة من الخضر والغلال وغيرها، مكان يحلو فيه المقام والعيش وسط هؤلاء المقيمين هنا الذين ينبعث منهم نور يخترق جسد كل من يراه ويقطن بداخله ليبعث فيه والطمأنينة والسكينة، مكان لا يمكن وصفه، ووصف جماله الخلاب...


لكن، بلغ إلى مسمعها صوت شجي، رقيق وحنون يقطع عنها متعة هذه الرحلة وهذا المشهد، صوت حاجة كانت تجاورها الطواف ومشاقه، وهي تمسكها من يدها بمساعدة حاجات أخريات وتمسح عرق جبينها:


- تماسكي أختاه. تنفسي جيدا. لا تستسلمي.


- (بصوت خافت، وقد ارتخى الجسد، وشرع في التهاوي) أشهد ألّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم (تبتلع ريقها، وترفع سبابة يمناها عاليا، وهي تنظر إلى السماء، وقد شارفت شوافر عينيها على الإغماض الأبدي) عطشت، هل لي بقطرة ماء... 


- (مقاطعة، وهي تكبر عاليا، بمعية زمرة من السيدات) أختاه، أختاه، أختاه (وقد دمعت عيناها وأعين الحاضرات) إنا لله وإنا إليه راجعون...

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال