بقلم الاستاذ عبد الفتاح حمودة

 عندما تشرق الشمس ابتلاني الله عز وجل بفقد البصر منذ الصغر على إثر علاج خاطئ من أحد الأطباء، ومن يومها تبدلت حياتي من نور إلى ظلام دامس، وعشت أعاني من هذا الأمر، وكلما سمعت همسات أو ضحكات الناس ظننت أنها سخرية منهم لعدم الرؤية، فاشتد غضبي وانفعالي.

وقد تزوجت من فتاة من قريتنا بعد إلحاح من أمي أن أتزوج، رغم أنني كنت أقول لها: من ترضى بالزواج من رجل ضرير؟ فكانت تعطيني مثلاً بالدكتور طه حسين عميد الأدب العربي بمصر، كان فاقدًا للبصر وعاش سعيدًا وارتقى إلى مناصب مميزة، وهو ابن قريتنا عزبة الكيلو مغاغة بالمنيا.


ومنذ زواجي حاولت إخفاء مخاوفي من الزواج من فتاة ترى بينما زوجها لا يرى، وحاولت أن أعتمد على نفسي في الحركة حتى أشعر بأنني لا أختلف عن أحد، حتى لا أكون عبئًا ثقيلاً على أي أحد ولو كانت زوجتي.


والحق يقال: وجدتها زوجة صالحة، حرصت بالفعل أن تتعامل معي بصورة عادية تمامًا، مراعاةً لمشاعري واحترامًا لي، فمثلًا كان يمكنها أن تتركني في البيت ريثما تقوم بتوصيل الأولاد للمدرسة، ولكنها كانت تحثني على الخروج معها كلما تقاعست عن ذلك، بل كانت – أحيانًا – تصحبني إلى إحدى الساحات الخالية وتحثني على الجري لبضعة أمتار.


وذات ليلة نهضت مفزَعًا على مرض ألمَّ بزوجتي، فاشتدت مخاوفي عليها ولم أدرِ ماذا أفعل، لو كنت أرى لصحبتها إلى أي مستشفى أو اتصلت بأي طبيب، أو على الأقل أحضرت لها دواءً مسكنًا من صيدلية البيت، ولم أجد سوى أن أضمها إليَّ بقوة، وأخفيت عليها دموعي التي كانت تنهمر خوفًا وقلقًا عليها، ودعوت الله أن يشفيها.


قلت لها: زوجتي الحبيبة، لا بأس عليكِ، ليتني أحمل عنكِ ولا يصيبكِ شيء، وتبقي في أتم عافية.


فأجابت بصوت خافت ضعيف وعبارات متقطعة: لا تقل ذلك يا صلاح، سأكون بخير بعد قليل... لا تقلق.


وطلبت مني أن أساعدها على النهوض للذهاب إلى صيدلية المنزل، واختارت دواءً مسكنًا وتناولته، ونامت على الفور، مسكينة أخفت عني مرضها طول الليل.


وفي اليوم التالي حدث ما لم يكن في الحسبان أبدًا، فقد كنت غارقًا في النوم لدرجة أن زوجتي لم تستطع إيقاظي للذهاب معها لتوصيل الأولاد للمدرسة، ولكنها عادت مسرعة واحتضنتني بقوة من شدة الفرح، وأخبرتني بأن أحد الأطباء المتخصصين قد أخبرها بأنه يمكن علاجي من هذا المرض، وأن الأمل في الشفاء بنسبة كبيرة للغاية، لأن فقد البصر قد جاء نتيجة خطأ، ولم أكن مولودًا به.


كنت صامتًا ولا أدري ماذا أقول، ولم أصدق أن تنتهي معاناة السنوات الطوال بهذه البساطة المتناهية.


وفي الموعد المحدد كنا قد أخذنا معنا كافة التحاليل والأشعة التي طلبها الدكتور، وذهبنا إليه، الذي استقبلنا استقبالًا طيبًا، وعاتبني بشدة لأنني لم أهتم بعلاج بصري منذ البداية، ولا سيما أن مجال الطب في تطور مستمر.


وبالفعل تم إجراء العملية اللازمة، ومكثت في العيادة بعيدًا عن أي أتربة أو ضوء شديد، وبعد بضعة أيام قام الطبيب بفك الأربطة عن عيني، وأول ما وقع عليه بصري زوجتي وأولادي، فأسرعت إليهم أضمهم إليَّ، والفرحة تشملنا جميعًا، وهكذا أشرقت الشمس بعد ظلام الليل.


مع تحياتي


(عبد الفتاح حمودة)

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال