اِمْرَأَةٌ مِنْ ثَلْجٍ 2
"قَلْبٌ يَتَكَاثَرُ فِيهِ الثَّلْجُ"
ما كانَ الثَّلْجُ يومًا أَرْضًا لِلْوُعُودِ،
لكِنِّي ما بَرِحْتُ أُجالِسُهُ وَجْهَ الصَّباحِ... لِأَغْتَرِفَ مِنْ رَحِيقِهِ وَالسُّكُونِ.
ثَمَّةَ مَن يَتَغَيَّرُ دُونَ أَنْ نَرَاهُ،
وثَمَّةَ اِمْرَأَةٌ تُنْقِلُ تِمْثَالَهَا بَعِيدًا
حينَ يَفِيضُ الحَنِينُ فِي قَلْبِ الجَلِيدِ.
وفي اليومِ السَّادِسِ...
لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ،
قُرْبَ الحَانَةِ الَّتِي تَشْرَبُ مِنْ عَتْمَةِ العَابِرِينَ،
ولا عَلَى الكُرْسِيِّ الَّذِي كَتَبْنَا فَوْقَهُ تَلاوِينَ الصَّمْتِ.
كَانَتِ الآنَ أَعْلَى الجَبَلِ،
تَتَنَفَّسُ وَحْدَهَا فَمَ الغُيُومِ.
غَرِيبٌ هَذَا الاِنْتِقَالُ؟
كَأَنَّهَا تَخَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ...
أَو أَنَّ البَرْدَ ضَاقَ بِذَاكِرَتِهَا،
فَصَعِدَتْ لِتَخْتَبِئَ فِي قَلْبِ الرِّيحِ.
صُعُودِي إِلَيْهَا... كَانَ يُشْبِهُ نِدَاءً فِي مَعَاجِمِ صَدْرِي
لا أَقْدِرُ عَلَى عِصْيَانِهِ.
خُطَايَ تَغُورُ فِي الثَّلْجِ،
كَأَنَّنِي أَبْحَثُ عَنْ نَفْسِي وَقَدْ نَسِيتُهَا بَيْنَ أَطْرَافِهَا المُتَجَمِّدَةِ.
كَانَ صُعُودُ الحُلْمِ فِي مُنْحَدَرٍ مَكْسُورٍ،
وَكَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَضِيقُ:
أَنْفَاسِي،
المَسَافَةُ... وَوُضُوحُ الفِكْرَةِ،
لِأُوَاصِلَ ارْتِجَافِي مِنَ الدَّاخِلِ،
وَأَصْعَدَ.
هُنَاكَ...
لَمْ تَكُنْ كَمَا تَرَكْتُهَا،
اِمْرَأَةً مِنْ ثَلْجٍ بِعَيْنَيْنِ مَشْقُوقَتَيْنِ،
وَجَبِينٍ مَحْفُورٍ... كَأَنَّ عَلَيْهِ خَارِطَةَ اِنْسِحَابٍ،
بِشَالٍ أَكْثَرَ هُدُوءًَا مِنْ مَوْتٍ قَدِيمٍ.
قُرْبَ كُلِّ هَذَا، وَرَقَةٌ سَوْدَاءُ مَعَ قَلَمِ حُمْرَةٍ وَخُطُوطٍ لا تَزَالُ طَرِيَّةً:
"أَيَّامُ الشِّتَاءِ تَطُولُ، وَالثَّلْجُ يَتَكَاثَرُ فِي قَلْبِي...
وَلا مِنْ شَمْسِ حُبٍّ تُشْرِقُ."
أَعَدْتُ قِرَاءَةَ تِلْكَ الجُمَلِ مَرَّةً إِلَى ثَلاثٍ،
ثُمَّ تَأَمَّلْتُهَا بِالْمَلامِحِ الجَدِيدَةِ:
الرَّقَبَةُ اِنْخَفَضَتْ كَأَنَّهَا اِنْكَسَرَتْ،
وَالْفَمُ صَارَ بِلَا فَتْحَةٍ كَأَنَّ السُّكُوتَ قَدِ اكْتَمَلَ.
لَمْ تَعُدِ التِّمْثَالَ وَلا الحَبِيبَةَ...
هِيَ... شَيْءٌ آخَرُ تَمَامًا،
اِمْرَأَةٌ لا أَعْرِفُهَا،
لَكِنَّنِي عَرَفْتُ أَنَّنِي أَحْبَبْتُهَا أَكْثَرَ...
كُلَّمَا غَابَتْ فِي الجَلِيدِ.
( محمد الحسيني )