الشروق الجميل بقلم الأديب عبدالفتاح حموده

 الشروق الجميل

منذ صغرى وأنا أعانى في حياتى ما لم يعان منه أحد أبدا.. ولم يفارقنى الحزن وكأنى خلقت خصيصا له.. وكأن الشقاء قد رفض أن يتركنى لحظة واحدة أسعد فيها.. فلا أذكر موقفا واحدا سعدت فيه أتحدث عنه حتى أكون منصفة فى سرد الشقاء الذى بلغ ذروته وعشته لحظة بلحظة .

فمنذ نعومة أظفارى وأمى كانت تعاملنى بمنتهى القسوة لدرجة أنها كانت تقسو علىّ بالضرب بقطعه من الخشب مثبّت فى طرفها مسمار مدبب ، أو تكوى أى جزء من جسدى بسكين وضعته علي النار ، وكأنها زوجه أبى ولا تطيق وجودى أو كأننى لست أبنتها.. فقد كانت ترى أن القسوه فى تربيه الفتاة الريفية أمرا طبيعيا خشية أن تنساق وراء اللاتى فى المدينة وما يتنقل عنهن من أخبار من هنا أو هناك.

أما أبى -سامحه الله-فقد كان مثل بعض الآباء يرى أن دوره فى الحياه قاصرا على توفير إحتياجات البيت ، فلم أذكر أنه ضمّنى إليه فى رفق وحنان كما يفعل الآباء غالبا ، ولم ينكرعلى أمى قسوتها فى تربيتى بل أغمض عينيه حتى عن الإسم الذى أخترته أمى عند مولدى وهو أسم موضع سخريه من كل من يسمعه.

وعندما تقدم للزواج منى أحد شباب قريتنا سعدت بذلك على أمل الخروج مما أجده من قسوة بالغة ، وما هى إلا بضعة أيام قليلة سرعان ما شعرت كأننى لم أغادر بيت أبى فقد كان زوجى هو الآخر لا يقل قسوة فى التعامل معى 

عن قسوة أمى ، وكأنها حذرته من التراخى فى التعامل معى لدرجة أنه قد أحبط محاولة أنتحار كادت تؤدى إلى حتفى ، ووجدته قد بدأ يلاطفنى ويعاملنى فى منتهى الرقة ، وأنا فى غاية الدهشة حتى أيقنت أنه قد فعل ذلك للحصول على السلسله الذهبية الوحيدة التى أمتلكها فأضطررت لإعطائها له لبيعها ليتمكن من السفر للعمل في إحدى دول الخليج.

ولما عاد بعد بضعة سنوات دفع كل ما يملك في شراء قطعة أرض زراعية تبيّن فيما بعد أنه أشتراها من رجل أوهمه أنه صاحبها بأوراق مزورة .

وذات يوم سقط زوجى مغشيا عليه وحمله بعض الناس وقد فارق الحياة على الفور.

وهكذا رحل زوجى وتركنى صفر اليدين لا أملك قرشا واحدا.. ولم أرغب فى اللجوء إلى أمى فقد فررت منها بلا عودة الأمر الذى أضطررنى للعمل سواء في سوق القريه أبيع وأشترى أو أعمل فى أرض زراعية أو أعطى دروسا خصوصية لبعض أطفال القرية أو... الخ ، ولم أنم فى يومى إلا سويعات قليلة

وإن كان الأمر قاصرا على نفسى فقط فلن أبالى ولكن كل ما كنت أفعله من أجل أولادى . وقد أعرضت عن الزواج نهائيا من أجلهم وآخر من رفضت الزواج منه هو شقيق زوجى ، فلم أعد أستطيع ان أتحمل المزيد من المعاناة ومن تتحمل مثلى ما تحملته.

وقفت ذات يوم أمام المرآة ، وبكيت بشدة على ما آلت إليه حياتى ونسيت أنّى إمرأه لها كيانها ومشاعرها.. فغيرى تنعم بحياتها وأنا أشقى فيها.. وغيرى تجد من يتحمّل عنها ، وأنا أحمل فوق رأسى وطأة المسؤلية.. وغيرى تجد من يحنو عليها ويضمها إليه فى رفق ومودة ، وأنا أعيش وكأن الحياة قد خلت إلا منى.. تحطمت.. إنهارت قواى.. وفى حركة لا إرادية أمسكت المقص ونزعت شعر رأسى كله فأنا أى شيء إلا أن أكون إمرأه أبدا.

ظللت على هذا الحال حتى حدثت المفاجأة الكبري فمنذ بضعه أيام أنتشرت الأنباء عن انتشار فيروس الكورونا في العالم كله ، وبالتالى لم أعد أستطيع العمل إلا خلال الساعات المسموح لنا بالتحرك خلالها.

وذات يوم جفانى النوم ، ووجدت هاتف أبنى الجوال ففتحته لكي أقرا كل ما تقع عليه عيناى حتى أستوقفنى مقالا أعجبني كثيرا (دعوه للتفاؤل) الذي نشره الأستاذ عبد الوهاب خليل ، وما أحوجنى لمن يخرجنى مما أعانى منه ومن الإحباط الشديد الذى أشعر به.

فبادرت إلى الكتابه له في صفحته الخاصه فرحب بي ترحيبا طيبا ، ووجدته أبا رحيما عطوفا.. أستطاع بسعة صدره وهدوءه المميّز.. وتأثيره العجيب فى أن يجعلنى أشعر كأننى أعرفه منذ زمن بعيد ، وأستطاع ببساطته وحسن متابعته أن يجعلنى أتحدث معه فى كل ما قاسيت منه فى حياتي

فقد جعلنى أشعر كأنه الأب الذى أفتقدته ، ومن يومها أصبح كالشروق الجميل الذى أضاء وجوده ظلمة حياتي .

مع تحياتي (عبدالفتاح حموده)

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال