الهوية الوطنية والأقاليم الثقافية الكونية بقلم الصحفي الشاعر محمد الوداني_تونس

 الهوية الوطنية والأقاليم الثقافية الكونية 


الهوية الوطنية ليست مجرّد شعارات ترفع أو رموز تعلق، بل هي منظومة قيم ومفاهيم، تنبني على عناصر متداخلة تشمل اللغة، التاريخ، الثقافة، الدين، الجغرافيا، وأنماط العيش. وهي، رغم صلابتها الظاهرية، ليست جامدة بل تتفاعل مع المحيط، وتعيد تشكيل نفسها وفق متغيرات الواقع والعصر.


في السياق العالمي، شهدت الهوية الوطنية منذ نهاية القرن العشرين وما بعد الحرب الباردة تحولات عميقة، خاصة بفعل العولمة، والهجرة، وثورة الاتصالات، وهو ما أدى إلى تآكل بعض الخصوصيات لصالح هوية كونية تروج لها القوى الكبرى، ولكنها كثيراً ما تُتهم بأنها تغطي على الهيمنة الاقتصادية والثقافية. ومع ذلك، لم تختفِ الهويات الوطنية، بل عاد حضورها بقوة في العديد من الدول، في شكل حركات وطنية محافظة، أو مشاريع ثقافية لإحياء الذاكرة والانتماء، أو حتى عبر القومية الجديدة.


أما الأقاليم الثقافية، فهي تمثل الفضاءات الجغرافية التي تنبثق منها الهويات الثقافية، وتشكّل روافد للهوية الوطنية، وتكشف عن التنوع داخل الوحدة. فالعالم يتكوّن من فسيفساء من الأقاليم الثقافية التي تشكل حزاماً من التنوع داخل الدول وخارجها، وهي ليست بالضرورة متعارضة مع الهوية الوطنية، بل تغنيها وتمنحها عمقاً إنسانياً وتاريخياً، إذا ما تم التعامل معها بوصفها ثراءً لا تهديداً.


وفي تونس، تتجلّى الهوية الوطنية في عناصر مشتركة واضحة: اللغة العربية، الإسلام كدين وثقافة، والانتماء الجغرافي والتاريخي لمجال مغاربي – متوسطي – عربي – إفريقي. ومع ذلك، فالنسيج التونسي يزخر بأقاليم ثقافية فرعية تعبّر عن عمق التجربة التونسية: من الجنوب الصحراوي إلى الساحل الحرفي، ومن الشمال الأمازيغي إلى الوسط الزراعي، تظهر أنماط متعددة من التعبير الثقافي، في اللباس والموسيقى والطعام واللهجة والعادات. هذه الأقاليم ليست مجرد تقاليد محلية، بل مكوّنات جوهرية في بناء الهوية الوطنية التونسية.


غير أن هذه الهوية، اليوم، تواجه تحديات حقيقية: الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، صعود الفردانية، تراجع المنظومة التعليمية والثقافية، إلى جانب التأثيرات الأجنبية المتزايدة بفعل الإعلام الرقمي وشبكات التواصل. ومع ذلك، لا تزال تونس تملك فرصة ذهبية لصياغة مشروع استشرافي للهوية الوطنية، يقوم على:


1. ترسيخ التربية على المواطنة والانتماء في المدارس والجامعات.

2. إحياء التراث المحلي للأقاليم الثقافية عبر الإعلام والفنون والسياحة.


3. إعادة بناء خطاب وطني جامع يوازن بين الأصالة والانفتاح.


4. تعزيز التعدد داخل الوحدة، باعتماد سياسات ثقافية لا مركزية تثمّن التنوع الجهوي.


في المستقبل، لن تكون الهوية الوطنية صراعاً بين المحلي والعالمي، بل مشروعاً مرناً يقوم على تفاعل منتج بين الأقاليم الثقافية داخل البلد الواحد، وبين الخصوصية والانفتاح على الآخر، وبين الأصالة والتجديد


مع تحيات رئيس هيئة التحرير والمدير الصحفي الشاعر الناقد محمد الوداني

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال