حالة طوارئ على السطوح.بقلم الشاعر خالد أخازي

 حالة طوارئ على السطوح  

خالد أخازي


تُدركُ هي، وليس سدى،  

مدى جحودِ المرايا.  

وإن وصفت المرآة بمراهق الزجاج،  

تدركُ مدى هوسَ المرآةِ  

بفضح ما تبقى من الخفايا.


حين يخطو، متسللًا،  

زلزالُ وقتٍ غادرٍ  

من صَفائحِ الحياة،  

تكتب رسالةً لصديق قديم،  

وتعلم أنه رحل.


رأت عللًا تخربُ وجودًا بشريًّا،  

بمنايا قاسيةِ النبأ،  

بطيئة القرار،  

غريبة التجلي،  

مبتهجة القدر.


ولأنها امرأةٌ،  

عاشت بلا عداد زمن،  

كانت تشعر فقط  

بالتحول حولها،  

بعينِ روحٍ  

مضطربةِ القياس.


تهاب بجرأة النهار  

هذا الفراغ  

في كنائس جلد الحياة.  

كم أيقظت برمشٍ عفويّ الصدمة،  

وخُطى متهتكة الطلعة.  

أجراسًا تصدّأت بالخوف!

هل غير نهر النداء  

في تل فراشات الخلوة  

مجراه القديم؟


ضفاف كثيرة على الجسد تصحرت،  

وغاب عازف الناي  

ساعة الغروب.


ترى خرابًا لحيواتٍ تتلاشى بغتةً،  

بكر وفر شرسين  

من خلايا كانت في الأصل حميمة.


رأت راحلين نعاهم الندامى،  

رأت جنائز تعبر في رهاب الأزقة،  

وكانت الهجيرة تلفظ الظل والرجاء.


أصاخت السمع لقصص كثيرة،  

عن موت في خذلان الأسرة،  

حيث لا تعرف الروح  

العودة من المنام.


كم رافقت من نعوش  

لحياة غير مكتملة الصخب،  

لم تقرر بعد  

أن تصمت إلى حين الضوضاء المرجلة،  

لم تقرر بعد  

أن تسكن مدن النسيان...!


رأت كل شيء  

حليف التبدد،  

من ألذ سيجارة  

إلى كأس نبيذ،  

من عشاء فائض النشوة  

إلى ليالي ساخرة  

تمتح من السهر لتنتشي.


كل شيء يخيف،  

حتى عادة النوم حتى الفجر،  

كل شيء شبهة موت،  

حتى أكل بيتزا  

في مطعم ساهر حد الشبع،  

يهابه جسر دمٍ  

يرعبه قليل من الملح والجبن.


كان الرحيل حولها غريبًا،  

موجع العبور،

يأتي بغتةً  

كعاصفة بحرية  

لا تتوقعها عيون التنبؤ  

في طقس الحياة.


كانت تخطو بعيدًا  

عن نظرات مرآة  

تلهو بصور قديمة،  

تضحك من عجز المساحيق  

عن ردم حفر السنين،  

وتهزأ من أحمر الشفاه  

الذي افتقد رطوبة الماضي.

تهزأ شماتةً  

من رموش متعبة السدل،  

لم تعد تتحمّل  

سقيفة وهم العنفوان.


تخطو بعيدًا، بعيدًا،  

تهرب من إدمان تمتعٍ مزدوج.  

كانت تتمتع بسؤال المرآة،  

كانت المرآة تهمس لها  

بما صَبَا له القلب  

ويرتاح له الكبرياء.


كانت المرآة تجدد الوظيفة  

مراقب تغيير وتدمير،  

بهذا الهمس المريح،  

حتى قست يومًا  

بهدير جريح.


جحيم مرآة،  

صدقها الأبدي.


ما زالت الظلال قادرة  

على صناعة الوحشة،  

ما أقسى الوحدة والشيخوخة...!

الوحدة أشد فتك من السموات.


عيب المرآة أنها لم تتعلم الرياء،

عاشت صخب الحياة حولها،  

فضّلت الحقيقة والحكمة.  

كان عليها أن تثري معجمها  

من أسرار أعياد الميلاد،  

من كل حديث بشري  

عن ربيع لغوي في الخريف.


مرآة هذه السنين  

غير مؤمنة بالحكمة،  

لهذا تفشي عدوى  

اليأس، والاكتئاب.


تفشي الداء والرهاب  

خوفًا من فناء في عجل،  

ذاك الداء يتسرّب  

من تغطرس كلاب الزمن.  

داء يعلق مجرى الحياة  

في سقف الفناء،  

حين تختلس ظلال المساء  

النظر لجسد أنهكه صهيل الضجر.

حين تتجرأ عيون المرآة...  

تتفرس وجه الزمان والمحن.

حين نشيخ لا تشيخ المرايا،  

فتصيبنا بعدوى الانهيار الخفي،  

تفضح عريها

حين لا ترى في محيا الحياة  

غير عقارب ساعة فوق الرؤوس...  

تحصي علامات الحياة،  

ويضيق نفس الرجاء  

بنظرتها الغبية.


المرايا تحمل معها

 حقدها التاريخي  

على امرأة أذلتها،  

حين أسرت لجارة اعتزلت السهر:  

"إن المرايا تعكس السطوح... لا غير."


يفرح المرآة خوفنا من التجاعيد  

والهدم القلق من الإلحاح،

ويُفرج كربها القديم،  

قهر فضي يبدد ليل النواصي.  

تنتشي بتصحر فروة الرأس،  

عندما يفتح شتاء الثلج  

بوابة صقيع العمر،  

ليبْرأ ليل الخصلات.


لكنها المرايا،  

المرايا دومًا غبية.

الشيخوخة حالة طوارئ  

على السطوح،  

ولا أحد يملك منع تجوال العنفوان  

في مدننا الداخلية.


لهذا، كلما شخنا،  

زدنا بهاءً... وهي لا تعلم...  

من ربيع الكلمات،  

وكل البجعات التي ترقص خفية  

في بحيرات ضلع السنين.


قالت بجعة راقية الذوق

خرجت توا من عقل الحكمة 

"زاد النهايات المؤلمة دفء ذكريات،  

وأعراس حياة جديدة،  

نعيشها في عيون الأطفال،  

وفي جداول الاغتسال  

من خوف النهايات."


المرآة...  

هفوة عقلية،  

كان يكفي صحبة الماء والنهر  

للتناوب على العزاء.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال