كسرة الضوء الأخيرة.بقلم محمد الحسيني

 محمد الحسيني / لبنان

.................................


كَسْرَةُ الضَّوْءِ الأَخِيرَة 4

"ذَلِكَ الَّذِي يُشْبِهُنِي"


البيتُ لا يزالُ ينبضُ بالهمساتِ

والظلالُ تتحوَّلُ كأشباحٍ... تُرِيدُ أَنْ تُكْمِلَ حِكَايَتَهَا.


يظهرُ الطِّفْلُ مرَّةً أُخْرَى

مِنْ خَلْفِ سَتَائِر،

وعيناهُ تحملانِ ثِقَلَ السِّنِينَ الَّتِي لَمْ يَعِشْهَا.

"هُنَاكَ الْمَزِيد..."

بِصَوْتٍ يَبْتَلِعُ رِيحًا خَرِيفِيَّةً، لِيَنْفُثَ بِكُلِّ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ الْمَيِّتَةِ.


الخامِسَةَ عَشْرَة...

عُمْرُ الْجُرُوحِ الَّتِي تَتَقَيَّحُ بِصَمْت،

وَعُمْرُ الْقَلْبِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَرَاهِيَةَ كَمَا يَتَعَلَّمُ الصَّغِيرُ الْمَشْيَ.


الخامِسَةَ عَشْرَةَ، وَالصَّبِيُّ أَمَامَ الأَبِ، بِكِتْفَيْنِ مَشْدُودَتَيْنِ كَقَوْسِ الْحَرْب،

وَالْعَيْنَانِ تَشْتَعِلَانِ بِنَارِ ثَوْرَةٍ مَكْبُوتَة.


"لَنْ أُطِيعَكَ بَعْدَ الْيَوْم..."

كَلِمَاتٌ تَنْطَلِقُ كَحِمَمٍ مِنْ فَمٍ تَعَلَّمَ أَنْ يَقُولَ "لَا" بَعْدَ صَمْتٍ مَرِيض.

الأبُ يَقْتَرِبُ بِغَضَب، لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا يَتَرَاجَع...

لَا يَخْتَبِئُ فِي الزَّوَايَا كَمَا اعْتَادَ فِي طُفُولَتِهِ.


الصُّرَاخُ يَمْلَأُ الْبَيْتَ مَرَّةً أُخْرَى،

صُرَاخَانِ يَتَصَارَعَانِ كَوَحْشَيْنِ جَائِعَيْنِ فِي... قَفَصٍ وَاحِد،

وَالْأُمُّ تَقِفُ فِي الْوَسَطِ، كَشَجَرَةٍ وَحِيدَةٍ فِي قَلْبِ الْعَاصِفَة.


زَاوِيَةٌ جَدِيدَةٌ يُشِيرُ إِلَيْهَا طِفْلُ السَّابِعَةِ...

إِلَى مُرَاهِقٍ يَتَعَلَّمُ لُغَةً جَدِيدَة،

لُغَةَ الْكَلِمَاتِ الْحَادَّة،

يَقْذِفُهَا سَكَاكِينَ فِي وَجْهِ أُمِّهِ:

"أَنْتِ... أَنْتِ سَبَبُ كُلِّ هَذَا..."

كَلِمَاتٌ تَخْرُجُ صَدًى لِصَوْتِ أَبٍ قَدِيم،

كَأَنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي سَكَنَ الْبَيْتَ انْتَقَلَ مِنْ جَسَدٍ إِلَى آخَر.


الأُمُّ تَبْكِي... وَتَبْكِي بِصَمْت،

يَشْعُرُ الْمُرَاهِقُ بِالنَّدَمِ الْمُرِّ فِي حَلْقِهِ،

لَكِنَّهُ لَا يَتَوَقَّف...

لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَوَقَّف.


وَزَاوِيَةُ السَّابِعَةِ عَشْرَة...

عُمْرُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَتَعَثَّرُ مَكْسُورَةَ الْجَنَاح،

يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النَّاس...

أَنْ يَقُولَ شَيْئًا جَمِيلًا،

شَيْئًا عَادِيًّا،

لَكِنَّ لِسَانَهُ يَرْفُضُ الطَّاعَةَ كَمَا يَرْفُضُ قَلْبُهُ السَّلَام.


"أَ... أَ... أَرْ... أُرِيد..."

تَتَقَطَّعُ فِي فَمِهِ كَخُيُوطِ عَنْكَبُوت،

وَالنَّاسُ يُحَدِّقُونَ...

بِعُيُونِ شَفَقَةٍ،

أَوْ سُخْرِيَة.

هُوَ يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ مَحْمُولًا بِخَيْبَاتِ أَمَلٍ جَدِيدَة،

يَجْلِسُ فِي الزَّاوِيَةِ الْمُظْلِمَةِ، حَيْثُ اعْتَادَ أَنْ يَكُونَ طِفْلًا،

وَيَهْمِسُ لِنَفْسِهِ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِع...


يَرْفَعُ الرَّجُلُ رَأْسَهُ لِيَنْظُرَ إِلَى طِفْلِ السَّابِعَةِ،

حُدُودٌ تَبْدَأُ فِي الذَّوَبَانِ،

مِثْلَ شَمْعٍ تَحْتَ شَمْسٍ حَارِقَة.

"مَنْ مِنَّا الْحَقِيقِيّ؟... وَمَنْ مِنَّا الْوَهْم؟..."

وَالطِّفْلُ يُحَدِّقُ فِي عَيْنَيْ الرَّجُلِ بِنَظْرَةِ آبَارٍ مَهْجُورَة:

"هَلْ أَنْتَ حَقِيقِيٌّ أَمْ أَنَا؟..."

يَرْتَجِفُ الرَّجُلُ، لَا يَعْرِفُ جَوَابًا،

لَا يَعْرِفُ إِنْ كَانَ يَحْلُمُ بِالطِّفْلِ، أَوْ أَنَّ الطِّفْلَ يَحْلُمُ بِهِ.


"أَنَا الْآنَ أَصْبَحْتُ رَجُلًا..."

يَقُولُ طِفْلُ السَّابِعَةِ، وَيُكْمِلُ بِصَدًى يَتَرَدَّد:

"وَأَنْتَ... هَلْ عُدْتَ طِفْلًا؟..."


( محمد الحسيني )

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال