تحليل وقراءة أدبية بقلم الشاعرة الأديبة غزلان حمدي من تونس

 تحليل وقراءة أدبية بقلم الشاعرة الأديبة غزلان حمدي من تونس

تبدو قصيدة عائشة ساكري عملاً نابضاً بالشفافية الوجدانية، ينهض على ثنائية البرد والدفء، والغياب والحضور، في لغة تنساب كأنها بخارُ نفسٍ يخرج من فمٍ يرتجف في ليل ديسمبر. الشاعرة تشيّد عالمها من بردٍ خارجيّ يطرق الأبواب وبردٍ داخليّ يسكن القلوب، حتى يغدو الشتاء رمزًا لحالة إنسانية كاملة تتجاوز الطقس لتلامس الوجع العميق للروح.


تبدأ القصيدة بنداء يشي بالاستنجاد والرغبة في الاحتماء، إذ يتحوّل الحبيب أو القريب أو حتى الوجود الآخر إلى سقفٍ معنوي أمام صقيعٍ ليس مادياً فقط، بل شعورياً يلتف حول الفؤاد. لغة الشاعرة هنا دقيقة ورقيقة، تفتح باب الصورة من غير كثافة زائدة، فتقول أكثر مما تُظهر، وتترك للقارئ أن يستشعر البرد كما لو كان يمر بين أصابعه.


ثم يجيء "ديسمبر الأصمّ" ليصبح شخصية حية في النص؛ شهرٌ لا يسمع، لا يحنّ، ولا يحمل إلا ثقل العراء. هذه الاستعارة تمنح القصيدة بعداً إنسانياً، وتجعل فصل الشتاء نموذجاً لزمن القسوة والغياب. تتابع الشاعرة تصوير البرودة التي تجتاح القلوب، فتُخرج العاطفة من إطارها الرومانسي لتضعها في مواجهة وجودية مع عالم بلا دفء.


وحين تتحدّث عن الندوب التي لم تلتئم والنوافذ التي أُغلقت دهورًا، تنقل القارئ من صقيع الطبيعة إلى صقيع الذكريات؛ فالمكان ليس بيتًا فقط، بل هو الذاكرة التي انطفأت، والشعور الذي لم يعد يعرف طريقه. وهنا تتجلّى براعتها في جعل المشهد الخارجي مرآة دقيقة للداخل.


ورغم كل هذا العراء، تترك الشاعرة باباً صغيراً للضوء، جمرةً تتنفّس في العتمة، وكأنها تؤمن أنّ الإنسان مهما طال ليله يحمل في داخله بذرة دفء لا تُطفئها الرياح. هذا الانتقال من الألم إلى بصيص الرجاء يجري في سلاسة لا تكلّف فيها، ويُبرز حسّها الشعري الناضج الذي يعرف كيف يوازن بين القتامة والنور.


وفي النهاية، تختم القصيدة بمشهد جميل للّمسيرة المشتركة، فالصقيع لا يذوب إلا حين نمشي معاً، والنوافذ التي انطفأت قد تضيء من جديد ولو بنور واحد. إنها رسالة دفء وسط عالمٍ متجمّد، تقول فيها الشاعرة ببلاغة رقيقة إن الإنسانية تُصنع من يد تمسك يدًا، لا من عزلةٍ مهما بلغت قوتها.


عمل شاعريّ فيه صدق الروح وعمق الصورة، وتفيض فيه عائشة ساكري من إحساسها الصافي ما يجعل قصيدتها دفئًا صغيرًا يقاوم برد ديسمبر… كل الشكر لها على هذا النص الذي يهب قارئه لُحظة نور وسط صقيع الكلام.


مع تحيات رئيس مجلس الادارة غزلان حمدي من تونس


صقيعُ النَّوَى.


بقلمي عائشة ساكري تونس 


ظلّلْ فؤادي


من صقيعِ النّوى..


واطلُقْ جناحيْكَ للرِّيحِ كيْ ننْجُوَ.


هذا "ديسمبر" الأصمْ


قد حلّ بأرضِنا..


و دِيارُنا عُرَات


ولا سقفَ يأوينا....


من يمّ الشتاء


قلوبُنا يا إلهي أَصْحتْ ثالجهْ


ونحنُ والبردُ سَوا


على طولِ المدى


ومع البردِ، تمتدُّ في صدورِنا


ندوبُ غيابٍ ما التئمت،


ونوافذٌ أُغلِقَتْ دهورًا


فما عاد ضوؤها يعرفُ إلينا طريقًا.


كأنَّ العمرَ يمرُّ على أطرافِنا


ثلجًا ثقيلًا،


وكأنَّ الريحَ تسحبُ ما تبقّى


من دفءِ الأمسِ الذي كنّا نعرفه.


ومع ذلك…


في العتمةِ جمرةٌ صغيرة


تتنفّسُ سرًا،


تحرسُ فينا ما نجا 


من الانطفاءِ، وتهمسُ:


إن يدًا تُمسكُ يدًا


قد تهزمُ ليلَ ديسمبر،


ولو كان أصمًّا لا يسمع نداء.


فإن طال الطريقُ بنا،


وبقيتِ الدنيا ثلجًا في ثلج،


سنمشي…


حتى يذوبَ الصقيعُ عن أرواحِنا،


وتعودَ لنا نافذةٌ واحدة


تضيءُ ما تبقّى من هذا المدى.


تونس 5_12_2025

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال