كسرة الضوء الأخيرة1. بقلم الشاعر محمد الحسيني

 كسْرَةُ الضَّوْءِ الأَخِيرَةُ 1

"الطِّفْلُ الَّذِي ما زَالَ هُنَاكَ"


يَقِفُ أَمامَ البَيْتِ

كَمَن يَقِفُ أَمامَ بابٍ مَسْحورٍ ... وَالمَساءُ يَتَدَحْرَجُ خَلْفَهُ

كَكُرَةٍ مِنَ الحَرِيرِ البَنَفْسَجِيِّ


لا يَتَذَكَّرُ مَتَى أَصْبَحَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَعَتَبَةِ البابِ

رُبَّمَا مَسَافَةً فَلَكِيَّةً

أَوْ مَتَى تَحَوَّلَتْ مَفَاتِيحُ البَيْتِ فِي جَيْبِهِ ...

إِلَى قِطَعٍ مِنَ النَّدَمِ المُتَرَاكِمِ


عِشْرُونَ عَامًا ... هُنَا كانَ آخِرَ مَرَّةٍ

عِشْرُونَ عَامًا مِنْ "الهُرُوبِ المُقَدَّسِ" ... مِنْ ذَاتِهِ

مِنْ طُفُولَتِهِ المَدْفُونَةِ تَحْتَ رُكامِ السَّنَوَاتِ

وَالْأَعْذَارِ المَصْنُوعَةِ مِنْ وَرَقِ التُّوتِ


الآنَ أَعُودُ

لا لِأَنَّهُ يُرِيدُ

بَلْ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَاقِهِ ... يَذْبُلُ بِبُطْءِ

وَهُوَ يَعْلَمُ، أَنَّ دَوَاءَ ذَبُولِهِ الْوَحِيدَ مَخْبُوءٌ خَلْفَ هذَا البابِ الَّذِي ...

يَشْبِهُ كَهْفًا مِنَ الأَسْرَارِ


يَسْحَبُ النَّفَسَ إِلَى رِئَتَيْهِ

كَمَن يَسْحَبُ خَيْطَ الحَيَاةِ الْأَخِيرَ

وَرَائِحَةُ البَيْتِ تَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ

حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ البابَ:

رَائِحَةُ الخَشَبِ تَحْضُنُ أَسْرَارَهُ الأُولَى

وَالْغُبَارُ الَّذِي يَحْتَفِظُ بِضَحَكَاتِهِ

وَالْصَّمْتُ الَّذِي يَحْرُسُ ... كُلَّ كَلِمَةٍ لَمْ يَقُلْهَا لِأُمِّهِ

قَبْلَ أَنْ تَغَادِرَ إِلَى ... حَدِيقَةِ الغِيَابِ


يَدُسُّ الْمِفْتَاحَ فِي القِفْلِ

يَدُورُ مَعَهُ كُلُّ شَيْءٍ

الزَّمَنُ

الذَّاكِرَةُ

نَبَضَاتُ قَلْبِهِ

وَأَشْيَاءٌ أَمَامَ نَاظِرَيْهِ كَطَائِرٍ مُذْعَوِرٍ


القِفْلُ يَسْتَسْلِمُ لِصَرِيرٍ مَعْدَنِيٍّ

يَشْبَهُ تَنَهِيدَةَ الأَشْيَاءِ النَّائِمَةِ

وَالْبَابُ يَفْتَحُ عَلَى ... عَتْمَةٍ رَقِيقَةٍ

كَأَنَّهَا عِبَاءَةُ لَيْلٍ مُخْمَلِيَّةٍ

يَتَقَدَّمُ خُطْوَةً وَاحِدَةً وَيَسْمَعُهَا ...

تِلْكَ الضَّحْكَةَ الْخَافِتَةَ الَّتِي تَأْتِي مِنَ الطَّابِقِ الْعُلْوِيِّ

ضَحْكَةُ طِفْلٍ يَلْعَبُ وَحِيدًا فِي الغُرْفَةِ الْمُظْلِمَةِ


يَتَجَمَّدُ

يَشْعُرُ بِالدَّمِ يَتَسَمَّرُ فِي عُرُوقِهِ

نَعَمْ ... كانَ يَضْحَكُ هَكَذَا وَحِيدًا حِينَ كانَ طِفْلًا

حِينَ كانَ يَخْتَرِعُ أَصْدِقَاءَ مِنَ الهَوَاءِ ...

لِيَمْلَأَ بِهِمْ فَرَاغَ البَيْتِ الْكَبِيرِ


"لَكِنْ مَنْ يَضْحَكُ الآنَ؟"

يُغْلِقُ البابَ خَلْفَهُ، وَفِي أَعْمَاقِهِ، يَعْرِفُ أَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ مِنْ هُنَا كَمَا دَخَلَ ...

شَيْءٌ مَا يَنْتَظِرُهُ فِي الطَّابِقِ الْعُلْوِيِّ

شَيْءٌ مَا ... يَعْرِفُ اِسْمَهُ وَوَجْهَهُ

وَكُلُّ أَسْرَارِهِ الْمَخْبُوءَةِ


يَضَعُ قَدَمًا عَلَى أَوَّلِ الدَّرَجِ الخَشَبِيِّ ...

وَكُلُّ دَرَجَةٍ تَصْعَدُهَا قَدَمُهُ أَعْلَى، تَنْزِلُ بِهَا رُوحُهُ دَرَجَةً أَعْمَقَ


الضَّحْكَةُ تَسْتَمِرُّ فِي الأَعْلَى

بَدَتِ الآنَ وَاضِحَةً

بَرَّاقَةً

كَمَا لَوْ أَنَّ طِفْلًا حَقِيقِيًّا يَلْعَبُ فِي غُرْفَتِهِ الْقَدِيمَةِ

يَلْعَبُ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ

فِي البَرَاءَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ... تَرَكَهَا هُنَا

قَبْلَ عِشْرِينَ عَامًا

وَهَرَبَ


"هَلْ يُمْكِنُ لِلطُّفُولَةِ أَنْ تَنْتَظِرَ صَاحِبَهَا كُلَّ هذَا الْوَقْتِ؟"

"هَلْ يُمْكِنُ لِلْبَرَاءَةِ أَنْ تَبْقَى حَيَّةً فِي بَيْتِهَا النَّائِمِ؟"

لا يَعْرِفُ

لَكِنَّهُ يَصْعَدُ خُطْوَةً، خُطْوَةً

نَحْوَ الضَّحْكَةِ

نَحْوَ الْمَاضِي

نَحْوَ ذَاكَ الطِّفْلِ

الَّذِي تَرَكَهُ هُنَا وَنَسِيهِ

... نَحْوَ نَفْسِهِ


(مُحَمَّدُ الْحُسَيْنِي)


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال