اين يكمنالمعنى زهرة بن عزوز

 أين يكمن المعنى؟


في عالمٍ يزداد قسوةً يومًا بعد يوم، يبدو جليًا أن اللّطف أصبح سلعةً نادرة، وأن المشاعر الحقيقيّة ترفٌ لا يتماشى مع إيقاع العصر. لا مكان آمن لأصحاب القلوب الصّادقة، ولا لمن يُصرّون على الصّدق مع إنسانيتهم. في هذه الحقيقة المؤلمة، يبدو النّاس أشبه بمن يمشي حافي القدمين على شظايا زجاجٍ لا يرحم، بأقدامٍ ناعمة تعرف كيف تخطو بحذر.

القلوب الّتي لا تزال تنبض بالرّحمة والمحبّة تواجه اختبارًا جديدًا كلّ يوم. تُلاحقها عيونٌ تشكّ في صدقها وتواجه كلماتٍ تُقلل من شأنها. تُوصف بالسّذاجة حين تسامح، والضّعف حين تحبّ، والحمق حين تكون واثقة. وكأنّ الّلطف أصبح اتهامًا، والرّحمة عيبًا يجب إخفاؤه. كلّ من يختار الصّدق مع مشاعره يُنظر إليه بعين الرّيبة، ويُهمّش من ذنبٍ اقترفه لمجرد أنّه لم يعد بارعًا في القسوة.

في هذا العالم، لا يكافأ النّقاء، بل يُساء فهمه. يُعتقد أنّ من لا يصرخ لا صوت له، ومن لا يُهاجم لا يعرف كيف يدافع. لكن الحقيقة هي أنّ هناك صمتًا أقوى من أيّ ضجيج، وأنّ من يقاوم بصبرٍ يُمارس شجاعةً راقية.

الّلطف ليس نقطة ضعف؛ إنّه رغبةٌ شجاعةٌ في مواجهة عالمٍ يُغرينا بالانغلاق والتّخدير. إنّه مقاومةٌ هادئةٌ للكائن البشري الّذي يُشوّه إنسانيتنا. أن نبقى متعاطفين مهما كانت الجروح، وأن نمدّ أيدينا مهما كانت الأحزان، وأن نكون بنّائين رغم خيبات الأمل المتكرّرة - هذا فعلٌ لا ينبع من ضعف، بل من قوّة داخليةٍ عميقةٍ تعرف كيف تدافع عن نفسها دون أن تُفقد قدراتها.

لكن البشر الحقيقيين يتعبون. يتعبون بشدّة. حربهم ليست دائمًا في أفضل حالاتها الخارجيّة، بل في الدّاخل أيضًا. كلّ مساء، تتسلّل إليهم أسئلة، تنخر فيهم بصمت: هل يستحق هذا العالم أن يبقى صادقًا؟ هل من جدوى من إبقاء قلوبنا حيّة وسط كل هذا الجفاف؟ إنّهم قلقون من أفكار لا يعبّرون عنها، لأنّهم قد يكونون أكثر اعتيادًا على الصّمت من التّعبير.

ومع ذلك، لا يستسلمون. لأنّهم لا يبحثون عن المجد، ولا ينتظرون التّصفيق،. يريدون ببساطة البقاء على حالهم. أن يناموا دون تأنيب ضمير. أن ينظروا إلى وجوههم في المرآة دون أن يكرهوا ما يرونه. أن يحافظوا في داخلهم على ذلك الجانب الطّفولي الّذي لا يزال يؤمن بالخير ويؤمن بأنّ الرّغبة ليست دائمًا وهمًا، مهما كانت باهتة.

من السّهل جدًا أن تبدو قاسيًا. كلّ ما عليك فعله هو أن تحجب مشاعرك بطبقة من البرودة، أن تغلق قلبك وتحشر فيه بعض الحسابات الدّقيقة. لكنّ التّحلي بالّلطف، بغضّ النّظر عن الجراح، واجبٌ يومي. يتطلّب جهدًا وتذكيرًا مستمرًا بأنّ القلب ليس عبئًا دائمًا، بل نعمة، وأنّ المشاعر لا يجب أن تُدفن خوفًا من الأذى.

يجد النّاس الطّيبون العزاء في التّفاصيل الصّغيرة. في وردةٍ تنمو في زاوية شارعٍ مزدحم، في ضحكة طفلٍ غافل، في كلمة شكرٍ مفاجئة، في كتابٍ يفتح نافذةً على عالمٍ آخر، أو حتّى في فنجان قهوةٍ، أو شاي يرتشفونه بهدوءٍ بعيدًا عن الضّجيج. هذه الأمور البسيطة، الّتي لا يراها أحدٌ، تُلهمهم الكثير. تمنحهم القدرة على الاستمرار، وسببًا للتمسّك ببصيص النّور.

لعلّ أكثر ما يُثير الإعجاب في النّاس الطّيبين هو أنّهم لا يسعون لتغيير العالم فجأةً؛ فهم يُؤمنون بأنّ لكلّ فعلٍ صغيرٍ تأثيرًا. كلمةٌ طيبةٌ تُنقذ قلبًا من الانقراض، ولمسةٌ رقيقة.

رغم كلّ شيء، يحلمون. يحلمون بعالمٍ أكثر رحمةً لا يُكافئ القسوة ولا يُهين المشاعر. يحلمون بمنازل تُربي أطفالها على الحبّ لا الشّك، وعلى الرّحمة لا الهيمنة. يحلمون بمؤسساتٍ تُعلي شأن الإنسان على الأعداد، ومدنٍ تُحافظ على ما تبقى من التّواضع. قد يُدركون أيضًا أنّ هذه الأحلام عظيمة، بل ربّما مُستحيلة، لكنّهم لا يستسلمون لها. لأنّ التّخلي عنها يعني التّخلي عن أنفسهم.

يُدركون أنّ الحياة قد لا تكون دائمًا صادقة، وأنّ الخير لا يُقابله بالضرورة خير، وأن النّوايا الحسنة لا تحمي من الخيانة. لكنّهم يُدركون أيضًا وأنّ القسوة لا تُدوم، وأنّ البرود لا يُطيل العمر، وأنّ القلوب المُغلقة لا تُشفى. لذلك يختارون البقاء منفتحين على الحياة، مهما كان الخطر.

لا يحتاج الصّالحون إلى ألقاب أو تماثيل. إنّهم فقط بحاجة إلى من يُفهم، أو على الأقل يُتركون وشأنهم دون أن تساء معاملتهم. ألا يعاملوا كأدوات، ألا ترى او كائنات فضائية. أن يُسمح لهم بالعيش في هذا العالم دون التّخلي عن جوهرهم.

في نهاية المطاف، يبقى البشر الحقيقيون خطّ الدّفاع الأخير لإنسانيتنا. إنّهم نبض القلب الّذي يُذكرنا بأنّنا لم نتحوّل تمامًا إلى آلات. إنّهم الدّليل الصّامت على أنّ العالم، رغم كلّ عيوبه، لا يزال يستحق العيش فيه، والحلم به، والحبّ فيه.

لن يُغيروا وجه الأرض، لكنّهم يزرعون لحظات لا تُنسى في تفاصيلها. يتركون بصمة على حياة من يمرون بهم، كما يترك النّسيم أثره على الوجوه، دون أن يُرى.

وفي ذلك وحده يكمن المعنى.


بقلمي/زهرة بن عزوز

البلد/الجزائر

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال