دردشة في عالم أمي.بقلم الشاعر القدير رضا بوقفة/الجزائر

 دردشة في عالم أمي


لم تكن أمي تقرأ الكتب، لكنها كانت تحفظ الحياة عن ظهر قلب.


في كل مساء، كنت أجلس عند حافة سجّادتها، أراقبها وهي تخيط ثوبًا ممزقًا أو تراقب قدر الحساء على نار هادئة. كانت تتحدث دون أن ترفع صوتها، وكأنّ كل كلمة تُقال في عالمها لا تحتاج إلى ضجيج لتكون عظيمة.


سألتها يومًا:

– أمي، ما هو الحزن؟

فردّت وهي تضع الإبرة في مكانها:

– الحزن هو أن تجد الورد ذابلًا دون أن تعرف من نسي سقيه.


سألتها:

 وماذا عن الفرح؟

قالت وهي تبتسم لي:

الفرح أن ترى طفلًا يضحك دون سبب، ويذكّرك بأن الحياة يمكن أن تكون بسيطة.


لم أكن أدرك حينها أني أدردش في عالمٍ خاص، عالمٍ لا يشبه الواقع، ولا يشبه المدينة التي تعجّ بالشكاوى.

في عالم أمي، لا أحد يصرخ، لا أحد يقاطعك وأنت تحلم، لا أحد يسألك لماذا تأخرت إن كنت عائدًا من قلبك.


ذات مساء، مرضت أمي.

جلستُ إلى جوارها هذه المرّة، وأنا من يضع الغطاء على قدميها، ويسقيها الماء بيديّ.

سألتها:


أمي، ماذا لو رحلتِ؟

قالت بصوت خافت كنسيم يمرّ على شجرة زيتون:

– لا ترحل الأمهات يا ولدي، نحن نختبئ في الأشياء الصغيرة:

في رائحة الخبز، في ضوء الصباح، في صوت الماء، وفي قلبك حين تحزن دون سبب.


ومنذ ذلك اليوم...

كلّما اشتقت إليها، عدتُ إلى عالمها، فتحتُ دفاتري القديمة، وأدرتُ "الدردشة" في ذاكرتي.

لم يكن هناك إنترنت... فقط قلبٌ يفتح باب الذاكرة، وأمّ لم ترحل يومًا.


مرّت السنوات، وتغيّرت ملامح الحيّ، اختفت الأشجار التي زرعناها صغارًا، وعلت مكانها جدرانٌ من إسمنت وهدير سيارات. وحده عالم أمي ظلّ كما هو... محفوظًا في زاوية القلب، لا يتقدّم فيه الزمن.


كنت أعود من عملي مرهقًا، تتبعني وجوه الشاشة والملفات الثقيلة. لكن ما إن أفتح باب البيت القديم، حتى أسمع صدى صوتها في أرجاء الغرف:


لا تنسَ أن ترتاح قبل أن تحلم.


هكذا كانت تقول دائمًا:

"لا تحلم وأنت متعب، الأحلام المتعبة تُنبت كوابيس."


في أحد الأيام، وجدت صندوقًا خشبيًا صغيرًا بين أغراضها القديمة، ملفوفًا بقطعة قماش مطرزة بيديها. فتحته، فإذا برسائل قصيرة كانت تكتبها ولم ترسلها، كانت موجهة إليّ، كتبَتْ على إحداها:


 "إبني، عندما تتألم لا تبحث عن تفسير، بل ابحث عن حضن. فإن لم تجدني، فخذ بطرف الغيم وقل له: أنا ابن امرأة كانت تفهم الدموع قبل أن تنزل."


قرأت الرسائل جميعها، واحدة تلو الأخرى، وكأنها دردشة مؤجلة، ورسائل صوتية من قلب أمّي إلى مستقبلٍ لا تعرفه، لكنها توقّعت وجعه.


في الليلة التالية، جلستُ في المطبخ حيث كانت تقضي ساعاتها، أعددتُ شايًا بالنعناع كما كانت تفعل، وضعت فنجانين على الطاولة. نظرت إلى المقعد المقابل، وهمستُ:


 أمي، هل لا زلتِ تسمعينني؟


لم تأتِني إجابة، لكن الهواء تحرّك، وارتجف لهب الشمعة.


حينها فهمت…

أن الدردشة في عالم أمي لا تحتاج إلى كلمات،

بل إلى قلبٍ يُصغي، وذاكرةٍ لم تنطفئ.


بقلم الشاعر رضا بوقفة شاعر الظل 

وادي الكبريت 

سوق أهراس 

الجزائر

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال