صمود أب عرف الحق و أمن به
ليس سهلًا أن يقف الأب شامخًا بعد أن يُنتزع من قلبه فلذة كبده، لا بمرضٍ أمهله الوداع، ولا بألمٍ مهّد للفراق، بل بموتٍ مفاجئٍ كالصاعقة، خطف الابن الشاب في عزّ فرحه، وهو ما يزال عريسًا جديدًا، لم تذق روحه بعد طعم الاستقرار، ولم تُكمل أقداره سطور الحلم.
رحل الابن فجأة، كأن السماء استعجلت حضوره، تاركًا خلفه أمًا مكسورة القلب، وزوجة شابة لم تجف بعد حنّاء فرحها، وبيتًا كان يُرتّب أيامه على وقع الضحك، فإذا به يصحو على الصمت الثقيل. لكن الوجع الأكبر، ذاك الذي لا يُرى، كان في صدر الأب، الدكتور رؤوف الوسلاتي، الذي وجد نفسه واقفًا أمام امتحانٍ لا تُدرّسه الجامعات، ولا تُهيّئ له الشهادات، امتحان الفقد.
صمود الأب لم يكن إنكارًا للحزن، ولا قسوة على الدمع، بل كان وعيًا مؤلمًا بأن الانكسار التام سيُسقط من بقي. وقف كالجبل، لا لأنه لا يتألم، بل لأنه يعلم أن الأمهات لا يحتملن انهيار الآباء، وأن الزوجة الشابة تحتاج سندًا لا حطامًا، وأن الرحيل لا يجب أن يُورّث موتًا آخر للأحياء.
وفي عالمٍ جاهل، لم يكتفِ بالصمت احترامًا للمصيبة، بل كشف عن وجهٍ قاسٍ، حيث شماتة البعض كانت أشدّ وقعًا من الفقد ذاته. أناسٌ لم يتعلموا أن الموت ليس مناسبة للحكم، ولا للفهم السطحي، ولا لتصفية الحسابات الصغيرة. لكن الأب، بحكمته، لم ينزل إلى مستنقعهم، أدرك أن الشماتة لا تصدر إلا من فراغٍ داخلي، وأن من يسخر من وجع الآخرين، إنما يهرب من عجزه الإنساني.
كان صموده درسًا صامتًا، رسالة تقول إن الكرامة لا تُدفن مع الأحباب، وإن الرجولة ليست في رفع الصوت، بل في ضبط الانكسار. حمل حزنه بصمت، ومشى به بين الناس دون أن يسمح له أن يتحول إلى حقد، أو يأس، أو سقوط أخلاقي. اختار الطريق الأصعب: أن يبقى إنسانًا، رغم كل شيء.
لم يسأل: لماذا أنا؟ ولم يصرخ في وجه القدر، بل آمن أن الأرواح أمانات، وأن من استُردّت أمانته، فإنما عادت إلى خالقها. ومع ذلك، ظلّ الأب أبًا، يتوجّع في الخفاء، يحدّث ابنه في الدعاء، ويراه في تفاصيل البيت، وفي خطواتٍ لم تعد تُسمع، وفي فراغ المقاعد.
هذا الصمود ليس بطولةً استعراضية، بل وجعٌ مُدار بحكمة، وحزنٌ يُحمل بشرف. هو صمود رجل أدرك أن أعظم وفاء لابنه الراحل، أن يحفظ ما تركه خلفه: أمًا، وزوجة، وذكرى طاهرة، واسمًا لا يُدنّسه الحزن ولا الشماتة.
سلامٌ على الأب الصابر، على قلبٍ تعلّم أن ينزف بصمت، وأن يعلو فوق الجراح، وأن يثبت أن الفقد لا يُسقط الكبار، بل يكشف معادنهم.
رحم الله الابن، وربط على قلوب أهله، وجعل الصبر تاجًا لا يُرى، لكنه يُرفع عند الله.
بقلمي الشاعرة الأديبة غزلان حمدي من تونس
