تحليل نقدي بقلم الدكتور مصطفى محمد العياشي

 تحليل نقدي بقلم مشترك الدكتور مصطفى محمد العياشي 

تحمل قصيدة "الحلم الضائع" للشاعرة عائشة ساكري بُعدًا فلسفيًا عاطفيًا يعكس مأساة الفراق القدري، حيث تبني الشاعرة عالمًا شعريًا قائمًا على التوازي والانسجام قبل أن تتدخل الأقدار لتُحدث الانفصال. تبدأ القصيدة برسم صورة للعلاقة بين الحبيبين من خلال مجاز رياضي دقيق، فالتشبيه بـ"خطين متوازيين" يعكس فكرة التقارب الأبدي الذي لا يُمكن أن يلتقي فعليًا في عالم الواقع، مما يخلق تناقضًا ضمنيًا بين الاستمرارية والانفصال المحتوم.


في المقطع الأول، نشهد وحدةً متكاملةً بين الطرفين، حيث تُبرز الشاعرة اندماج الحبيبين في إيقاع الحياة بلا اكتراث لفصول الزمن وتقلباته. فالشتاء، رغم برودته، يمنح الدفء، والربيع، رغم رقته، يمنح القوت، مما يُشير إلى قدرة الحب على خلق توازن ذاتي مستقل عن العالم الخارجي. لكن هذا الانسجام لا يدوم، إذ يظهر "الضباب الثقيل" كرمز غامض للقوى التي تفصل الأحبة عن بعضهم، سواء كانت الظروف، أو الأقدار، أو حتى النفس البشرية وتقلباتها. هذا "الضباب" يبدأ خفيفًا، ثم يتكاثف تدريجيًا حتى يصبح حاجزًا يمنع الرؤية ويحجب اللهفة، مما يجعل الفراق أمرًا حتميًا.


يأتي التحول الدرامي في القصيدة حين تستخدم الشاعرة الاستعارة المائية عبر صور البحر والسفن، مما يُعزز إحساس التيه والافتقاد. تُصور الشاعرة لحظة الافتراق على أنها إبحار لا عودة منه، دون وداع، وهو ما يُضفي مأساوية رومانسية على المشهد، حيث يكون الفراق قاسيًا وغير قابل للإصلاح. لكن رغم هذه النهاية المؤلمة، يبقى الأمل حيًا في لقاء مستقبلي، مما يُضفي بُعدًا متفائلًا خافتًا على القصيدة.


اللغة في النص مشبعة بالصور الشعرية التي تعكس الحنين والضياع، فالشاعرة توظف الطبيعة لتكون مرآة للمشاعر الداخلية، مستخدمة تراكيب متوازنة مثل "ثلج الشتاء دفؤنا، ورحيق زهور الربيع غذاؤنا"، مما يُعزز الإيقاع الداخلي للنص. هذا التوازن ينكسر تدريجيًا مع دخول الفراق إلى المشهد، ليحاكي الشعور بالتشويش والتشتت. التدرج العاطفي في القصيدة يبدأ بحالة استقرار وطمأنينة، ثم ينتقل إلى التشويش والضبابية، لينتهي بحالة ضياع وفراق مشوب بالأمل.


"الحلم الضائع" هي قصيدة تُجسد الحب في صورته القدرية، حيث تلتقي العواطف بالمصير الذي لا يمكن تغييره. بأسلوب رقيق وشفاف، نجحت الشاعرة عائشة ساكري في تقديم صورة وجدانية للحب والفراق، بأسلوب متماسك يمزج بين البساطة العاطفية والعمق الرمزي، مما يجعل القصيدة نصًا مفتوحًا يُمكن أن يجد فيه القارئ انعكاسًا لتجاربه الشخصية مع الحب والمصير.


مع تحيات ادارة مجلة غزلان للأدب والشعر والابداع الفني العربي للنشر والتوثيق والقراءة النقدية التحليلية.


**الحلم الضائع** 


كنّا كخطين متوازيين منذ أن نشأنا

وما كان للفراق بيننا درب أو سبيل.

نمشي الهوينا في ممرات الحياة

لا فرق بين شتاء وربيع.

ثلج الشتاء دفؤنا،

ورحيق زهور الربيع غذاؤنا.

كنا توأم الروح في رحم الأرض.


لكن ضبابًا ثقيلًا

كان يرافقنا من خلف السراب.

شيئًا فشيئًا، غدا يحجب الرؤية،

ويطفئ فينا نار الجوى.

فتُهنا وافترقنا،

وكلما حاولنا الإقتراب 

كان القدر أشدّ عصفًا من أشرعتنا.

وهكذا أبحرت سفن فراقنا

نحو شط بحر النسيان، دون وداع،

وكلنا أمل أن تعيد الأقدار لقاءنا.


الشاعرة عائشة ساكري_من تونس 

30 ديسمبر 2024

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال