حوار بيني والقمر والشمس
بقلم: فاروق بوتمجت
في فجرٍ لا يشبه أي فجر، وجدتني واقفًا على حافة الزمان، حيث لا توقيت للأشياء، ولا قوانين تسري على الضوء والظل. هناك، كنت وحدي... أو هكذا ظننت.
فإذا بنورٍ خافت ينبثق من جهة القلب، يتلوه وهج من جهة العقل. التفتُّ، فإذا بالشمس والقمر، وجها الأسطورة، يقفان أمامي... لا يتصادمان، لا يفرّ أحدهما من الآخر، بل واقفان كما لو أُذِن لهما بكسر الناموس من أجلي.
قال القمر بصوتٍ مبلل بالحزن:
"لماذا جئتني وحدك في زمن لا يزورني فيه أحد؟"
فأجبته:
"بحثت عن صدرك في لياليّ المعتمة، حين جفّ حبر الشعر، وتيبّست الأحلام على ضفاف الذاكرة."
قهقهت الشمس ساخرة:
"أيها الحالم، أما زلت تؤمن أن النور يُستعار؟ إنني أنا الحقيقة، القادرة على تعرية الظلال وكشف الخبايا."
فقلت لها:
"لكن نورك يا شمس يفضح الوجع، أما نور القمر فيحنو عليه."
ارتجّت الأرض من تحت قدمي، لا لزلزال، بل لأن قوانين الكون تهمس لي: "أنت الآن خارج المعادلة."
مددت يدي بين النورين، شعرت بالبرد والحر في آنٍ واحد، وخيّل إليّ أن أصابعي تنبت فيها أجنحة من نار وثلج.
قال القمر:
"أنا ذاكرة العاشقين، دمعة الفقراء، غطاء الحالمين في العراء... لا ألسع أحدًا، ولا أكشف عورة، بل أرافق من لا رفيق له."
قلت له وأنا أحدّق في حزنه الجميل:
"لهذا قصدتك أولًا، يا رفيق الوحشة، فالعالم امتلأ بضجيج الشمس، وأردت أن أسمع الهمس."
قهقهت الشمس ثانية، لكن هذه المرة كان في ضحكتها شجن:
"همسك لا يوقظ الزرع، ولا يُنضج الثمار، ولا يُزيل العفن عن الجدران... الليل لا يطعم جائعًا يا صديقي."
فرددتُ، وأنا أقف بينهما كقلم يتأرجح بين مدادين:
"لكن الليل يُنضج الشعر، ويُربّي الحكمة، ويُسكن الأرواح الهاربة من طغيان النهار."
صمتت الشمس قليلًا، ثم قالت:
"لكنني أنا الحقيقة، مهما كانت جارحة."
فقلت:
"والقمر هو الحلم، مهما كان كاذبًا."
في لحظة خاطفة، تشكل من صمتي جسرٌ بينهما. لحظة مستحيلة، لم تُسجّلها موازين الفيزياء، ولا تنبأت بها كتب الفلك.
اقترب القمر من الشمس، ورفعت الشمس يدها إليه، لم يتلامسا، لكن المسافة بينهما ضاقت، وأنا كنت الشاهد، والشهيد.
قالا معًا بصوتٍ واحد، فيه دفء ولهيب، نور وظل:
"أيها الإنسان... وحدك تجمعنا، لأنك تتأرجح دومًا بين ما تُخفي وما تُظهر، بين ما تتمنى وما تقدر، بين ما تؤمن وما ترى."
ثم اختفيا، كما جاءا، تاركينني واقفًا في برزخٍ بين ليل لا ينتهي، ونهارٍ لا يبدأ...
أدركت حينها أنني لست باحثًا عن النور ولا الهارب من الظلمة، بل أنا ابن اللحظة بينهما.
رفعت رأسي إلى السماء، وخاطبتها للمرة الأخيرة:
"أيتها الحياة... لن أسألك بعد اليوم: من أنتِ؟ بل سأكون السؤال ذاته، وأنتِ الجواب الذي يتبدّل كلما أشرقتِ أو أظلمتِ."