ظل الكرسي
بقلم غريب صبحي
جلست أمام البحر على حافة الصخر، جسدي ثابت كأنه قطعة من الزمن، لكن داخلي كان يغلي كموج يتجمع في الأعماق ثم يتحطم بعنف على صخور لا تلين. الريح تصفع وجهي بملحها البارد، لكنها لا تقدر على زعزعتي. لقد تعلّمت منذ زمن أن العواصف لا تُهزم بالقوة، بل بالصمود حتى تملّ من المحاولة. إلى جانبي كان كرسي فارغ، ليس جمادًا عادياً، بل ظلّ إنسان رحل. جرح صامت يشبه جملة انكسرت في منتصفها وتركت بلا خاتمة، انتظارٌ أبدي لشخص لم يعد، أو ربما لوعدٍ لم يولد قط.
لم أكن أهرب من أحد، بل كنت أعود إلى نفسي كلما ابتعدت عنهم. البحر أمامي لم يكن ماءً وأفقاً فحسب، بل مرآة صادقة لا تعرف الخداع، تعكسني كما أنا: بملامح متعبة، وندوب خفية، وشقوق لا يراها سواي. الوجوه التي مرت في حياتي تتساقط أمام عيني كأوراق ذابلة: وجوه ابتسمت ثم اختفت، وجوه جرحت ثم تركتني أضمد جراحي وحدي. تعلمت حينها أنني لم أعد أحتاج سوى لصوت الموج، ليؤكد لي أنني ما زلت حيّاً، وأن الوحدة لم تعد سجناً ضيق الجدران، بل صارت بيتاً أملكه وحدي، بيتاً لا يدخله إلا من يفهم أن الصمت أحياناً أصدق من كل الكلمات.
حدقت طويلاً في الأفق، وكأنني أريد تمزيق ذلك الخط الذي يفصل السماء عن البحر، علّني أجد خلفه حياة أقل قسوة، وسلاماً لا يشبه سلام البشر المزيّف. الأمواج كانت تكلمني بلغة قديمة لا يسمعها إلا من عاش طويلاً على حافة العزلة. أسمعها تهمس حين تهدأ، وتصرخ حين تثور، وكأنها تحفظ عن ظهر قلب ما أخفيه في صدري من أسرار واعترافات. الغيوم كانت تتشكل وتتمزق فوقي، تشبه تماماً الوجوه التي تظهر فجأة في حياتك ثم تتبخر بلا وداع. تذكرت أنني وسط الزحام شعرت بوحدة أكبر من وحدتي الآن، وأدركت أن الوحدة الحقيقية ليست أن تكون بلا أحد، بل أن تكون بين الجميع دون أن يفهمك أحد.
مددت يدي نحو الماء، أردت أن أختلس من برودته شيئاً أخزنه في كفي، أو ربما أحتفظ بقطرة ملح كتذكار. كنت أعلم أن البحر قد يأخذ رسائلي إلى مكان بعيد، أو يبتلعها في جوفه، لكنه لن يخونني. يكفيني أنه يسمع ولا يقاطع، يصغي دون أن يحكم. أما الكرسي الفارغ بجانبي، فقد كان كحارس صامت لمكان محجوز لشخص لن يعود، ومع ذلك لم أجرؤ على إزالته، لأن بعض الفراغات في حياتنا نتركها لتذكّرنا أن الغياب قد يكون جزءاً من شكلنا النهائي.
تدفقت الصور في رأسي كالسيل. رأيت طفولتي على الشاطئ بجوار أبي وهو يعلّمني أن البحر يشبه الحياة: لا يتوقف، ولا ينتظر أحداً. تذكرت الليلة الأولى التي قررت فيها مواجهة حزني وحدي، حين أغلقت باب غرفتي وجلست في الظلام أعدّ خساراتي وأحلم بما لم أنله. يومها فهمت أن الوحدة ليست عدوّاً، بل جدار أستند إليه حين تتعب قدماي، وأن من يستطيع الجلوس مع نفسه دون أن يفر إلى ضجيج الآخرين يمتلك قوة نادرة لا يملكها إلا القليل.
فوق رأسي، كانت طيور النورس تمزّق السكون بصرخاتها، لكنها لم تزعجني. وقع خطوات المارة خلفي كان يتلاشى، لأن عالمي أصبح محصوراً بين الموج أمامي والكرسي الذي يحمل جسدي. فكرت في معنى أن تبقى وحيداً بإرادتك، أن تختار الابتعاد عن الأذرع التي قد تعانقك اليوم وتدفعك غداً. فهمت أن الكرسي الفارغ بجانبي ليس علامة نقص، بل إشارة اكتمال، لأن اللحظة لم تعد تحتاج إلى أحد كي تكتمل.
في الأفق، قارب صغير يبتعد، بدا كأنه هارب من كل شيء أو عائد إلى لا شيء. تساءلت: كم من الذين فيه يشعرون بالعزلة وسط الآخرين؟ وكم منهم يتمنى هدوءاً يشبه هدوئي؟ البحر كان يعلّمني درساً جديداً: أن ما يرحل لا يعود، وأنك إما أن تواجه الموج أو يبتلعك. استنشقت الهواء المالح حتى شعرت به يملأ أعماقي، وأغمضت عيني لأحفر اللحظة داخلي. كانت الريح تلفني كذراعين باردتين لكنهما صادقتان. وحين فتحت عيني، كان الغروب قد بدأ يرسم لوحة من دم وبرتقال وأزرق عميق، لوحة لم أرَ مثلها إلا في قلبي حين يهدأ.
عندها فقط فهمت أن القوة الحقيقية ليست في الانتصار على معارك الآخرين، بل في الانتصار على نفسك. وأن الوحدة ليست عقوبة، بل هدية لا يحصل عليها إلا من ذاق سمّ الضجيج ومرارة الفقد. وأن جلوسي أمام البحر، بكرسي واحد أو بكرسيين أحدهما فارغ، ليس علامة حزن، بل إعلان صامت أنني لم أعد أخاف الغياب، لأنني أخيراً وجدت من يبقى دائماً…
وهو أنا.