الرغبة
صدق من قال: "يمكن تعريف الرغبة بأنها ميل للحصول على شيء يفتقده الإنسان في وضعه الراهن، أو التخلص من شيء يمتلكه."
ويثير موضوع الرغبة بهذا المعنى عدداً من التساؤلات الإشكالية، من بينها تلك التي تتعلق بعلاقة الرغبة كمفهوم ببعض المفاهيم الأخرى التي تبدو متاخمة لها، مثل مفهوم الحاجة، والإرادة، والسعادة.
من هنا أبدأ مقالي: لماذا يمتلك الإنسان دائماً رغبة في بعض الأشياء؟ هل هي وليدة الفطرة؟ أم أنها تتولد لديه لاحقاً؟
في الحقيقة، يرى العديد من المفكرين والفلاسفة أن الرغبة فطرية، إذ توجد في طبيعة الإنسان منذ ولادته. فرغبة الطفل في شرب الحليب من ثدي أمه هي نوع من الرغبات.
الرغبات أنواع، وتختلف من إنسان إلى آخر. ورغم أنها تُربط غالباً بالرغبة الجنسية فقط، فإن للمفهوم المطلق للرغبة معانيَ أوسع. فهي حالة حسية وغريزية لدى الإنسان، ترتبط بوجدانه وعواطفه. فالرغبة في البكاء، أو الضحك، أو الحزن، أو الفرح، كلها رغبات حسية وعاطفية. وهناك أيضاً رغبات فكرية وعقائدية، بعضها يولد مع الإنسان، وبعضها الآخر يُكتسب لاحقاً عبر التجربة، والتعلم، والمعرفة – وخصوصاً الرغبات الفكرية، التي ترتبط بالعقل؛ فالفكر لا يرغب في شيء إلا إذا أذِن له العقل بذلك، وهذا الارتباط له صلة – وإن كانت غير مباشرة – بالفطرة.
إرادة الإنسان في بلوغ مبتغاه هي أيضاً نوع من الرغبة: الرغبة في الحصول على أشياء نتمنى أن تكون لنا، حتى لو تطلب الأمر سنوات لتحقيقها. هذه الرغبة ينشطها العقل من خلال العاطفة، لأنها تبقى كامنة في داخل الإنسان، كأمل يسعى لتحقيقه.
فعاطفة الإنسان هي التي تحفّزه وتدفعه للاستمرار في السعي نحو تحقيق رغباته.
الإنسان يُولد على فطرته، وفي كل مرحلة من مراحل حياته يكتسب خبرة جديدة، عبر التربية العائلية، والتعليم، والاحتكاك بالمجتمع. وهذه التجارب تؤثر بشكل مباشر على تكوين شخصيته وتحديد رغباته، فتنتقل رغباته من كونها فطرية إلى مكتسبة.
الإنسان، في هذا السياق، يمكن تشبيهه بجهاز ميكانيكي يعمل وفق "ميتافيزيقا" مضبوطة، كأنه حاسوب مبرمج، حيث تتفاعل مكونات العقل مع بقية الأعضاء بطريقة منظمة.
العقل مرتبط بالإحساس الباطني، وهو ما يولّد لدى الإنسان طاقةً تُشعره بالحاجة إلى أشياء معينة ضرورية للحياة، مثل: النوم، الأكل، الحب، الكره، والعلاقات الاجتماعية.
وهذه الحاجات لا تُلبّى إلا عبر الرغبة، التي تشبع الذات من الداخل، حتى لو لم يكن الإنسان واعياً بها بشكل مباشر.
يريد الإنسان، بفطرته، أن يبرهن لمن حوله أنه مرغوب فيه، فيُظهر مفاتنه عبر اللباس أو الزينة – وهذا شكل من أشكال جذب الآخر، وهو ما يرتبط بمفهوم الرغبة الجنسية.
وهنا يلتقي العقل والجسد لتكوين "الشهوة"، وهو أمر طبيعي، يُساعد الإنسان على تحقيق توازن فسيولوجي يتيح له التحكم في رغباته.
لكن هل يؤدي إشباع الذات فعلاً إلى خلق إنسان سوي؟ أم أن الإنسان، رغم حصوله على مبتغاه، يظل دائماً يطمح إلى المزيد من الرغبات؟
من هنا، يمكننا أن نتساءل: إلى أي مدى يمكن أن يتوقف الإنسان عن إشباع رغباته؟
لقد تعددت التحاليل الفلسفية لمفهوم الرغبة، وتشعّبت العلاقات بين العوامل الداخلية للإنسان، سواء الفطرية أو المكتسبة.
ويرى البعض أن الكبت، منذ الطفولة، يولد لدى الفرد نقصاً في إشباع رغباته، مما قد يدفعه إلى سلوكيات غير طبيعية لنيل تلك الرغبات، التي تتحول داخله إلى "حلقة فارغة" تحمل عُقداً نفسية، يجب أن تُفحص من قبل مختص.
فالإنسان، إن لم يُشبِع رغباته الغريزية، يتحول إلى كائن يتصرف بلا عقل، مثل الحيوان.
فالجائع قد يسرق ليشبع بطنه، والجاهل قد يتعلم حتى في آخر عمره، والمحروم من الرغبة الجنسية قد يلجأ إلى سلوك غير أخلاقي لأنه لم يُمارس ما تتطلبه طبيعته الغريزية.
خلاصة القول:
يجب على الإنسان العادي أن يمتلك رغبات فطرية وحسية ترتبط بالعقل والجسد، وتتطور مع ما يتعلمه لاحقاً. وإن لم يتسنَّ له ذلك، فعليه اللجوء إلى مختص في هذا المجال، ليمر بحصص تعبير جسدي، وحديث، وتفريغ داخلي، إلى جانب حصص تساعده على التوازن السلوكي.
وبذلك، يكون قد نظّم وحافظ على توازنه، وسيطر على طبيعته الغرائزية.
بقلم: نادية التومي