وابتسمت.الاستاذ فاروق بوتمجت

 وَابْتَسَمَتْ..


في الزَّاوِيَةِ المَنْسِيَّةِ مِنْ مُخَيَّمٍ يَنَامُ عَلَى الرَّمَادِ وَيَصْحُو عَلَى الدُّخَانِ، جَلَسَتْ أُمُّ آدَم تُطَرِّزُ بَقَايَا قِطْعَةِ قُمَاشٍ أَخْضَر، كَانَتْ جُزْءًا مِنْ ثَوْبِ ابْنِهَا الْوَحِيدِ، آدَم.

كَانَتْ تَغْزِلُ بِالْخَيْطِ وَالصَّبْرِ، وَتَغْمِسُ إِبْرَتَهَا كُلَّ مَرَّةٍ فِي ذِكْرَيَاتٍ، لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ خِيَاطَتُهَا.

وَحِينَ انْفَتَحَتْ أَبْوَابُ الْغَيْمِ عَلَى وَابِلٍ مِنَ الْقَنَابِلِ، كَانَ آدَم هُنَاك... يَحْمِلُ الرَّغِيفَ لِأُخْتِهِ الصَّغِيرَةِ وَيَضْحَكُ.

ضِحْكَةٌ وَاحِدَةٌ.. وَخَرَّ...

سُكُوتٌ!

سَقَطَ الصَّمْتُ، وَسَقَطَ آدَم.

جَاءَ الْخَبَرُ كَسِكِّينٍ بِلا مِقْبَضٍ. حَمَلُوهُ مَلْفُوفًا بِكُوفِيَّةٍ كَأَنَّهَا جَنَاحُ حَمَامَةٍ، وَجْهُهُ الطُّفُولِيُّ لَا يَزَالُ سَاخِنًا بِالْحَيَاةِ.

كَانَتْ عُيُونُهُ مُغْمَضَةً، وَلَكِنَّ الْجَفْنَ خَفِيفٌ، كَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ... كَأَنَّهُ يُمَازِحُهُمْ.

النَّاسُ احْتَشَدُوا حَوْلَ الْجُثْمَانِ، صُرَاخٌ، دُعَاءٌ، بُكَاءٌ...

وَلَكِن أُمَّ آدَم وَقَفَتْ، تُشْبِهُ نَخْلَةً لَا تَعْرِفُ الرُّكُوعَ.

لَمْ تَصْرُخْ.

لَمْ تَنْهَرْ.

بَلْ مَسَحَتِ الدَّمَ عَنْ جَبِينِهِ، وَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الْجَمْعِ وَقَالَتْ بِصَوْتٍ ثَابِتٍ:


"مَنْ قَالَ إِنَّ آدَمَ مَاتَ؟!

مَاتَ مَنْ لَا وَطَنَ لَهُ، مَاتَ مَنْ لَمْ يُنْجِبْ شَهِيدًا.

أَمَّا أَنَا... فَقَدْ عَانَقَ ابْنِي الْمَجْدَ بِوَجْهِهِ، وَأَنَا عَانَقْتُهُ بِكَفِّي!

ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ... نَحْنُ لَا نُدْفَنُ، نَحْنُ نُزْرَعُ!"

سَكَنَ الْمَكَانُ، وَتَوَقَّفَ النَّحِيبُ.

حَتَّى الْهَوَاءُ بَدَا كَأَنَّهُ يَشْهَقُ مَعَهَا.

ثُمَّ... وَبِدُونِ إِنْذَارٍ، ابْتَسَمَتْ.

ابْتِسَامَةٌ غَرِيبَةٌ... لَمْ تَكُنْ فَرَحًا، وَلَا يَأْسًا... بَلْ كَانَتْ قِنْدِيلًا فِي وَجْهِ الظَّلَامِ.

كَأَنَّهَا تَقُولُ:

"خُذُوا دِمَاءَنَا، وَازْرَعُوهَا فِي تُرْبَةِ الْعِزَّةِ. لَا وَقْتَ لِلْعَزَاءِ، فَالْعَالَمُ لَا يَسْمَعُ الْبُكَاءَ، بَلْ يَسْمَعُ الانْفِجَارَ."

وَمَضَتْ نَحْوَ خَيْمَتِهَا، تَشُدُّ شَالَهَا الْأَسْوَدَ كَمَنْ يَسْتَعِدُّ لِلْخُرُوجِ مِنْ حِدَادٍ طَوِيلٍ.

مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، صَارَتِ النِّسَاءُ يُقَلِّدْنَ ابْتِسَامَتَهَا، يُخَبِّئْنَ الدُّمُوعَ فِي أَكُفِّهِنَّ، وَيُرَبِّينَ أَبْنَاءَهُنَّ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَآدَمَ...

لَا يَعِيشُونَ لِيَمُوتُوا، بَلْ يَمُوتُونَ لِيَحْيَا الْوَطَنُ.

وَكُلَّمَا مَرَّتْ بِجِدَارٍ مَهْدُومٍ، أَوْ بِطِفْلٍ يَرْكُضُ حَافِيًا، تَقُولُ لَهُ

 "ارْكُضْ يَا صَغِيرِي... فَالشَّهَادَةُ لَا تَنْتَظِرُ الْمُتَأَخِّرِينَ."

ثُمَّ تَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ...

وَ... تَبْتَسِمُ.


الاستاذ: فاروق بوتمجت (الجزائر 🇩🇿).

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال